23 ديسمبر، 2024 5:31 ص

اللاءات بين السر والعلن

اللاءات بين السر والعلن

مازال العراقيون يمارسون فعالية (محلك راوح) وبصبر منقطع النظير، منذ خلاصهم من حكم صدام حتى ساعة كتابة هذا المقال، وأظنني متفائلا حد السذاجة والسماجة بوصفي هذا، إذ كما يقول مثلنا: (علواه على بناية اول العام). وقطعا لن أسرد قصة هذا المثل إكراما لعيون القارئ، ومراعاة لمشاعره وخاطره، مع أني على يقين تام أن جلّ العراقيين يفهمون مبتغاي، ويدركون مقصدي من ذكر هذا المثل، فكلهم يتقلبون على صفيح ساخن مثلي، وجميعهم حتما يتلوعون على مايمر به بلدهم اليوم، وفي الوقت ذاته هم يستذكرون بحسرة وألم (أيام المزبن)، ويترحمون على (أيام اللف). فالمقارنة -لمن عاش أيام المزبن واللف- بين حقبتهما والحقبة التي نعيشها منذ عقد ونصف العقد، تكاد تكون مقارنة محكوما عليها مقدما برجحان كفة الحقبة الأولى على الأخيرة لامحال. و “لعل انحدار الدمع يعقب راحة”.. ولعلي باستذكاري الماضي، أخفف شيئا من هموم الحاضر، وأنفّس قليلا من ضغوط الآن والآنية التي ولجنا فيها من دون ذنب جنيناه، يقول شاعر:
قلب المتيم كاد أن يتفتتا
فإلى متى هذا الصدود إلى متى
يامعرضين عن الحب تلفتوا
فعوائد الغزلان أن تتلفتا
كنتم وكنا والزمان مساعد
الله ذاك الشمل كيف تشتتا
بعد انقضاء يوم الانتخابات -على ما انقضى عليه من عار لن يغسله أحد- بدأت تظهر في وسائل الإعلام تصريحات تبطنها تخمينات، بعضها تطمينات وبعضها تحذيرات وأخرى تأويلات وتحريفات، وهي كلها على لسان كتل وأحزاب، أو شخصيات سياسية، كان لها يد في كل ما من شأنه التأثير على سير العملية الانتخابية، بعضها يريد الخير والفلاح للعراق ولشعبه -كما يدعي- وبعضها الآخر يتأبط شرورا يحوكها ويدبرها مع رفاق له في الداخل، او منتفعين آخرين من الخارج -وهم كثر-.
والغريب فيما يحدث ان الجميع يناشد بالولاء للوطن وخدمة المواطن، والعمل لصالحهما، ومقارعة الذين يقفون ضدهما، وكلهم قادمون بخطط يقضون فيها على الفساد بأنواعه، ويقوّمون الانحرافات في أداء مؤسسات الدولة، وقطعا لم يفتهم كلهم أن يرفعوا شعار محاربة الطائفية، والقضاء على الإرهاب، وقد أتوا بمفردة (لا) ولصقوها بكل سلبية، كما أتوا بمفردة (نعم) ولصقوها كذلك بايجابيات كما يرونها بأعينهم. فكان الناتج؛ لا للمحاصصة.. لا للطائفية.. لا للفساد.. لا للمحسوبية.. لا للسراق… يقابلها من الـ (نعم) اضعاف تلك اللاءات فيما يخص الخدمات والسياسات التي ستتبع في إدارة البلد. ولعل تزاحم اللاءات هو الذي أوحى لمعروف الرصافي قبل ثمانين عاما أن يصدح ويقول:
لا يخدعنك هتاف القوم في الوطن
فالقوم في السر غير القوم في العلن
والغريب أيضا أن كل من جاء للعمل من أجل البلاد وملايين العباد، يشهر -أول ما يشهر- سيف الاتهام وسلاح التنكيل ضد رفاق دربه من الحكام والساسة والمسؤولين، ولاسيما الذين سبقوه في المنصب والمسؤولية، وكأن اللاحقين لا يعلون إلا بالإساءة الى سمعة السابقين، ونشر غسيلهم أمام الملأ -حقا أو زورا وبهتانا-. وهم بهذا يتبعون كل السبل والوسائل الميكافيلية، بغية إبراز ما يريدون إبرازه من دعاوى ومكائد، وقد فتحت فقرة رفع الحصانة عن النواب أبواب الشكاوى على مصاريعها، فتزاحم الجميع ضد الجميع على أبواب المحاكم، بين شاكٍ ومقاضٍ، مقلبا أوراقا قديمة تحمل ماتحمله من مخالفات، هي في حقيقة الأمر رصيدهم جميعا في ماضيهم، فهم كما يقول مثلنا: (دافنيه سويه).