18 ديسمبر، 2024 11:54 م

الكوسمولوجيا[1] السومرية والترسبات السوسيولوجيّة[2] لدى كريمر

الكوسمولوجيا[1] السومرية والترسبات السوسيولوجيّة[2] لدى كريمر

انّ كتاب ( السومريون ) كبير من حيث المادة ، ومتنوع من حيث المواضيع ، لذلك ارتأيت – لأنني في إطار بيان المعتقدات – تناول الفصلين الرابع والخامس منه ، الخاصين بالديانة والأدب .
وقد ابتدأ كريمر اول قصيدته كفراً ، حيث افترض مسبقاً انّ النظريتين ( الكونية ) و ( اللاهوتية ) ليستا سوى استنباط فكري من قبل العقل البشري السومري . وهو – رغم اعجابه الواضح واعترافه باشتراك هذه النظريات مع عقائد الأديان الإبراهيمية – الّا انه يرى أصلهما ناشئاً عن تأملات السومريين للطبيعة والكون وطريقة عملهما . فيقول : ( لقد طوّر السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد افكاراً دينية ومفاهيم روحية تركت في العالم الحديث أثراً لا يمكن محوه ، وخاصة ما منها عن طريق الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام . فعلى المستوى العقلي استنبط المفكرون والحكماء السومريون ، كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله ، نظرية كونية واُخرى لاهوتية كانتا تنطويان على ايمان راسخ قوي بحيث أنهما اصبحتا العقيدة والمبدأ الاساسيين في اغلب أقطار الشرق الأدنى القديم )[3] .
انّ عبارة ( … كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله … ) ليست جزءاً من المادة الوثائقية الآثارية كما هو واضح ، إنما هي وجهة نظر شخصية من العلامة كريمر ، ناشئة عن تصوّر خاص انطلق منه في رؤيته للنص الآثاري ، وهو ما سنناقشه في الغالب ضمن البحث ، وسنتعامل مع التصوّرات المستندة الى الأسس العلمية الحديثة ، كما سنعتمد – كشرقيين اقرب الى الذهنية السومرية – الفلسفة الأكثر توافقاً مع ما ترسمه الوثيقة السومرية ، لاسيما حين نعي انّ المجتمع السومري كان متحضراً جداً ومتقدماً في المجال الفكري .
فكريمر – كنتيجة متوقعة لخلفيته الثقافية – لم يشأ ان يفترض – في احتمال معتد به وله ما يقويه من الاستدلالات – انّ هذه النظرية الكونية اللاهوتية السومرية الإبراهيمية المشتركة قادمة من اصل واحد ، هو الأصل السماوي ، بمعنى انّ كريمر انطلق في توصيفه من الارض ، في حين كان يُفترض ايضاً ان يجرِّب الانطلاق من السماء .
انّ ما يضعف التصور الافتراضي لكريمر هو انه لم يكشف لنا عن الالية التي انتقلت بها هذه العقائد من السومريين الى الديانات الإبراهيمية ، هل تم هذا الانتقال عن طريق اكتشاف مؤسسي هذه الديانات الكبرى لآثار السومريين والواحهم المكتوبة ، وهذا ما لا اعتقد ان كريمر يراه مناسباً ، او ان هذا الانتقال كان ذهنياً يسري عن طريق الاعتقاد الاجتماعي المتسلسل ، وهنا يمكننا الافتراض ايضاً بأنّ السومريين اخذوا معتقداتهم هذه عن طريق طرف ثالث سبقهم ولم نعرف حضارته بعد ، او انه السماء التي خاطبتهم جميعا .
ومن اجل مثال عملي لمدى تأثير الخلفية المعرفية المحدودة لكريمر جهة فهمه للنص السومري يمكننا استقطاع بعض من تفسيره لوجود المادة ( ليل = lil) في القاموس السماوي للسومريين : ( وكانوا – السومريون – يقرون بوجود مادة بين السماء والأرض أطلقوا عليها ” ليل = lil” وهي كلمة معناها التقريبي ، ريح ، هواء ، نفس ، روح ، ويبدو انّ اكثر خصائصها أهمية هي الحركة والامتداد ، ولذلك يضاهي بوجه التقريب كلمتنا ” الجو ” . وكان يعتقد ان الشمس والقمر والكواكب والنجوم مكونة من نفس مادة ” الجو ” الّا انها علاوة على ذلك وهبت قدرة على الإشراق . ويحيط بال ” سماء – ارض [4]” من جميع الجوانب ، بما في ذلك من الأعلى والأسفل ، البحر اللامتناهي الذي يظل فيه الكون ، بطريقة ما ، ثابتاً وبلا حركة )[5] .
لكن ماذا لو اعطينا هذه الصورة السومرية للكون الى فيزيائي مثل ( ستيفن هوكينج [6]) ، ماذا سيتبادر الى ذهنه حينها ، يمكننا معرفة ذلك من خلال احدى اعتقاداته القريبة جداً للرؤية السومرية : ( فلابد ان تشمل مجرتنا والمجرات الاخرى على كميات كبيرة من ” مادة داكنة ” لا يمكننا رؤيتها مباشرة لكننا نعلم انها لابد ان تكون هناك بناءً على التأثير الذي تمارسه قوى جاذبيتها على مدارات النجوم في المجرات الحلزونية ، مثل مجرتنا درب اللبانة ، فهذه النجوم تدور حول مجراتها بسرعة اكبر مما لو بقيت تظل في مداراتها تحت تأثير قوى جاذبية النجوم المرئية في المجرات فحسب . والى جانب ذلك فان معظم النجوم تشكل تجمعات ، الامر الذي يمكننا من التنبؤ بوجود كثير من ” المادة الداكنة ” فيما بين المجرات في هذه التجمعات ، وذلك بدراسة تأثيرها في حركة بعضها بعضا )[7] .
وفي الرؤية الدينية أورد القران الكريم ما نصّه ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ )[8] .  وقد آور المجلسي في بحار الأنوار ( ” بغير عمد ترونها ”  قال الرازي : في قوله ” ترونها ” أقوال : … الثالث أن قوله ” ترونها ” صفة للعمد ، والمعنى : بغير عمد مرئية أي للسماوات عمد ولكنا لانراها ، … وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل ، وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الاجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله فحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فصح أن يقال رفع السماوات بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلاأن تلك العمد هي إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره و إبقاؤه إياها في الجو العالي وأنتم لا ترون ذلك التدبير ولا تعرفون كيفية ذلك الامساك ” انتهى ” . واقول : هذا الوجه الاخير الذي يتبجح به ونسبه إلى نفسه أورده شيخنا الطبرسي ره في مجمع البيان راويا عن ابن عباس ومجاهد )[9] .
ولا نستغرب عدم استيعاب كريمر للرؤية العلمية السومرية للكون ، لأسباب منها : الافتراضات المسبقة التي ترى ان السومريين شعب بدائي ، وعدم استساغة ثبوت وجود نظريات علمية ضخمة في الازمان الغابرة ، وعدم معرفة كريمر لتنظيرات علم الفلك الحديث الذي انطلق في الفترة التي اعقبت إصداره لنصوصه .
ومن هنا نستطيع معرفة ان عبارة كريمر القائلة : ( لم يكن تحت تصرف الفلاسفة والمفكرين السومريين ، اذا تحدثنا من الناحية العملية سوى اكثر الأفكار بدائية وسطحية عن الطبيعة والكون وطريقة عمله )[10] تنطبق على كريمر وحده لا على الحكماء السومريين .