22 ديسمبر، 2024 8:43 م

الكورد والأستقلال

الكورد والأستقلال

لم احظى بشرف لقاء الزعيم الكوردي مسعود البرزاني رئيس اقليم كوردستان ،الا انني شاهدته عن قرب في المحافل الثقافية التي تقيمها كوردستان بشكل دائم رغم الحرب التي لاتبعد سوى بضعة اميال عن مدن الاقليم ،ولقد رايته بظهور مختلف عن غالبية زعماء العالم ،فلا اليك اليك ،ولاصفعات وركلات وضجيج ،رغم انه محاط بحراس أشداء ،لكن هؤلاء الحراس على مايبدوا قد تلقوا تدريبات مهذبة في التعامل مع الناس الذين غالبا مارأيتهم ينظرون الى الزعيم بوجوه نظرة مغمورة بالمحبة والرضا البالغين.
لم اكن اعرف الكورد بشكل عميق كما عرفتهم الان ،فما تم ترسيخه في رؤوسنا – طيلة حكم العراق منذ استقلاله حتى اليوم – عبر الخطابات المنتجة بمهارة لتكون عازلا ابديا بين الاخوة الجيران ،لم يكن يتعدى تعريف الكورد الا كاعداء للوطن .ولم اكن اعرف النضال الكوردي والكفاح المسلح المشروع لاجل الحرية والاستقلال، رغم المامي ببعض ادوات الثقافة فمبالك بالمواطن الذي لايتقن الكتابة والقراءة ولايملك الا راسا جاهزا للحشو المقنن بالمفاهيم الباطلة على الدوام.
ولم اكن اعرف شيئا عن أحمدي خاني وملا جزيري وفقي طيران ومحمود الحفيد وعلي الحريري وملا باطي وحاجي قادري كويي وبيره ميرد وفائق بيكس وعثمان صبري وجكر خوين وعبدالله كوران وجلال زنكبادي وكفاح محمود ومحمد زنكنه وكلهم اعلام كورد في الثقافة !
ولم اكن اعرف تاريخ الكفاح الكوردي حتى قرات كتاب السياسي العتيد فاضل ميراني”قراءة في الرؤية السياسية” والذي اوصي بقراءته لاجل الالمام بالقضية الكوردية التي اخذت حيزا مهما في العالم المعاصر بالاخص في السنوات الاخيرة بعد ان احرز الجيش الكوردي انتصارات هائلة في حربه الاخيرة لفتت انظار العالم الي التاريخ الكوردي باكمله.
لكن والحق يقال، كنت اعرف اشياءا كثيرة عن الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني عندما كنت اسمع القصص من افواه القوم عن حرب الشمال ، فاتسائل ماحرب الشمال فيخبرنا القوم انها حرب ابدية بين الحكومة والكورد يقودها زعيم شغل العالم كثيرا اسمه الملا مصطفى البرزاني ،مما اضطرني آنذاك لقراءة كل مااتيح لي عن حياة هذا الزعيم الخالد .لاعرف ايضا انه تسنم وزارة الدفاع في اوّل دولة للكورد في ايران واسمها مهاباد.
وجاءت الايام وذهبت الايام فكبرنا وبدأنا نسافر الى المدن الكوردية فنرى الجمال الأخاذ ونرى شعبا مختلفا عما كانت الحكومات تحشوا رؤوسنا به ،فالمواطن الكوردي يمتلك صفات نادرة كثيرة لم يكن الكثيرمن جيرانه المحيطين به من كل الاتجاهات قد نال حظ امتلاكها.
رغم زياراتي المتكررة للاقليم طيلة السنوات السالفة لأسباب مختلفة ينحصر اغلبها في حضوري مهرجانات ثقافية ومعارض للكتاب وضعت الاقليم بمصاف الدول الاكثر تطورا واهتماما بالثقافة في العالم ،الا انه لابد من الاعتراف باني لم اعرف الشعب الكوردي بشكل مكثف ودقيق الا في اليوم العشرين من حزيران عام 2014 عندما كنت من اوائل الفارّين من سلطة تنظيم الدولة (داعش) بعد استلائه على ثلث العراق في ليلة واحدة اثر انسحاب الجيش العراقي من كامل المحافظات الثلاث عبر اشارة من بغداد ، حيث وصلت باعجوبة برفقة احد الاقارب وهو طبيب اسنان الى كركوك ثم السليمانية لنقضي فيها ثلاثة ايام ثم ننطلق باتجاه اربيل بعد ان التحقت بي عائلتي لنؤجر منزلا ونصنف في المفهوم العالمي كنازحين في اليوم الرابع والعشرين من حزيران 2014 .حتى اليوم.
اقول:لقد ابتدأت رحلة كانت لاتخلوا من المشقة في البدء ،لكنها تحولت تدريجيا الى مايشبه النزهة بعد اكتشافنا لاشياء كثيرة تظافرت الاقدار التي لم تكن في الحسبان ابدا ،على كشف اللثام عنها ،ولتتوضح لنا اشياءا كثيرة جاهد الحكام والسياسيين على الدوام لاخفائها عن سائر العراقيين . فقد عشنا سلاما افتقدناه منذ سنين طويلة وصار بمقدورنا ايضا ان نصعد مركباتنا دون ان ننبطح اسفلهن للتاكد من عدم وجود العبوات اللاصقة ، ولم نسمع ازيز الرصاص منذ 3 سنوات ،فيما بدأنا نشهد طقوسا غادرناها منذ اكثر من عقد ،فمثلا صار بمقدورنا ان نرى موكبا رئاسيا يتوقف عند اشارة المرور ،ورئيسا اوربيا يتجول في ليل اربيل دون موكب رئاسي ،وضابطة مرور جميلة تقف شامخة تنظم المرور في احد الاسواق المزدحمة ،وراينا وزراء يذهبون الى وزاراتهم بمركبات معلمة بارقام حكومية دون خشية من المواطنين ودون ابواق تزعج المارة او مسدسات واقنعة تحمل عشرات شعارات جيوش العالم ، اي نعم ،فآزاد وخسروا وحمه وجميع المواطنين الكورد يعرفون ان هذه مركبة الوزير وهذه مركبة الرئيس ويعرفون ايضا بان مركباتهم ومركبات الرئيس تخضع لقانون واحد اذا مافكرت احداهما باجتياز الاشارة الحمراء..وهكذا تبنى الدول!
لقد عرفت اشياءا كثيرة طيلة الثلاثة سنين التي قضيتها في اقليم كوردستان ، عرفت مثلا ان كل ماعليك فعله لتكون مواطنا محترما له مالاهل الاقليم من حقوق وواجبات ، ان لاتخلّ بالامن المجتمعي ، وان تحترم الاشارة المرورية ،وان لاتعتدي على حقوق الآخرين !
لذلك فانا طيلة الثلاثة سنين المنصرمة اعرف باركات اربيل وفنادقها الشاهقة ومعرضها العالمي الذي تقام فيه مختلف المناسبات ،واعرف صحفييها وشعرائها وعشائرها ،لكني لااعرف دوائرها الامنية الا لسبب يتعلق باجراءات السكن اسوة باي مواطن من خارج الاقليم . لااعرف دوائر الامن لاني لم اخل بالامن المجتمعي ولأني احترم اشارة المرور وحقوق الاخرين.
ليس مطلوبا منك ابدا – لتحضى باحترام كامل في اقليم كوردستان – ان تصفق للرئيس ،او ان تنتمي للاحزاب المتنفذة ،او أن تحضرا قسريا للتبرع بالدم لآلاف الجرحى من قوات البيشمركة وهم يدافعون عن شعبهم وعن ملايين النازحين من العرب السنة والمواطنين الشيعة الذين اجبرتهم الظروف الامنية في مدن العراق للسكن في مدن كوردستان لمزاولة تجارتهم او اعمالهم الخاصة او السباحة وغير ذلك.كل مامطلوب منك ان تحترم نفسك وتكون مواطنا صالحا!
بل ان هؤلاء جميعا عندما يتمشون في الاسواق وطيلة السنوات التي مرت – والتي يعيش فيها العالم باكمله وضعا امنيا استثنائيا يتيح للحكومات القفز على الحريات الشخصية لاجل الحفاظ على الامن المجتمعي – لم يوقفهم احد ما ،ليسالهم مثلا ان كانوا بعثيين او دعويين او نجفيين او موصليين او مؤمنين او ملحدين ،لم يحدث ذلك ابدا ،ولاهم ايضا يمكن ان يحدث بينهم اي حديث متشنج يمكن ان يشير الى فكرة تحزب او تطيف ، ففي جميع منطاق كوردستان تجد اصدقاءا يمرحون معا من اربيل والانبار والبصرة وكربلاء دون ان تطرأ على بال احدهم فكرة تدعوا للتناحر من تلك الافكار التي يتم ترويجها من قبل سياسيي بغداد.أجل ،فهذه الارض الطيبة لم تكن خصبة لنمو الكراهية والنقمة ابدا ،انها خصبة لنمو الوئام والصفح الجميل ،لان الجميع هنا يعرف بان الجسد ماعاد صالحا لتحمل المزيد من الكدمات !فبمجرد تجوالك في سوق قلعة اربيل الشهير يمكن ان يصادفك رجل كان قائدا عسكريا مهما في حقبة النظام السابق ،ويمكن ايضا ان يصادفك رجل كان من منظري فكرة تاسيس جيش يسمى قوات دجلة لمقاتلة الكورد في حقبة المالكي.
هذا لايعني ان الحكومة وحدها قد امرت الشعب بهذا الخلق الرفيع ،فمهما كانت الحكومات شرسة في فرض قراراتها على الشعوب ، لابد ان تخرج فئة من الشعب لتنفيذ رغباتها او ثأراتها ان شاءت. وهذا يعني مجددا ان الشعب الكوردي شعب ناصع وخال من الشوائب ولم تنموا في صدور ابناءه بذرة النقمة منذ نشوءه قبل الاف السنين عندما كان يفرض احتراما كبيرا على الامبراطوريات المجاورة له قبل الاف السنين ،واعني بذلك امبراطوريات فارس وآشور وغيرهما.
في ثلاث سنين عرفت مايرغبه الشعب الكوري ويمقته، فهذا الشعب العريق لايتقن الكذب ابدا وقاموسه خال من الشتائم يحبون الصفح والفطرة والبراءة واداء الامانة والرصانة والرزانة وحسن الظن.ويمقتون الغدرو نقض العهود والخيانة والقذف والسب والشتم ومافوق ذلك ومادون ذلك ومابين بين.
الكورد ليسوا من هواة الحروب ولايرغبونها ابدا الا اذا اجبروا عليها ،ولايجبرهم عليها سوى اثنين ،الاضطهاد والاعتداء. كما قال الرئيس البارزاني في خطاب القاه في البرلمان الاوروبي في بروكسل ” سعداء جداً عندما يعيش أطفالنا بعيداً عن الحرب”
والكورد لديهم نظرة ثاقبة ورؤية رشيدة لمستقبل العالم الأمني وكما جاء ايضا في نفس خطاب الرئيس في بروكسل ” لدينا تخوفات كبيرة من الفترة القادمة بعد التخلص من عناصر داعش في مدينة الموصل”
والكورد الذين ناضلوا وكافحوا لعقود طويلة شهدوا خلالها افول امبراطوريات وظهور اخرى يصعب عليهم تقبل فكرة ان يكونوا تابعين لاحد بعد كل هذه الكميات الهائلة من التضحيات ،وخصوصا عندما يكون هذا الاحد لايحفل باي سجل مشرف في النضال لاجل الشعوب ولم يكن اعتلائه عرش السلطة الا مجرد صدفة جائت بها الاقدار، وكما يقول البارزاني ايضا في بروكسل ” منذ 100 سنة نحاول أن تكون دولة العراق ديمقراطية إلا أننا لم نحصل على اية نتائج”
وللمرة الرابعة ايضا ، لايحلم الكرد بشيء عدا تحقيق حلمهم الازلي باعلان دولتهم المنتظرة والتي تكبدوا لاجلها آلافا لاتحصى من الضحايا منذ بدء كفاحهم المسلح قبل عقودا كثيرة ،وكما جاء في كلمة مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في حكومة كوردستان فلاح مصطفى اثناء احتفالية عيد الاستقلال الاميركي التي اقامتها القنصلية الامريكية في اربيل ” أن شعب كوردستان ‏الذي تعرض للمآسي التي على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة قرر أن يعيش بحرية مثلما قرر الشعب الأمريكي مصيره وقرر أن يعيش بحرية قبل 241 عاما”

فمالمانع اذن من ان ينال الكورد دولتهم التي يحلمون بها ومالتبريرات التي يمكن الاعلان عنها للوقوف بوجه هذا الحلم !
اني اذ اتسائل بدهشة وأسف بالغين ،اتذكر حكايتين مهمتين ،احداهما اني لم التق مسولا رفيعا في اربيل واساله عن رايه الحقيقي بدولة الكورد الا واجابني ان هذا حقهم المشروع فيما يذهب المسؤول نفسه الى بغداد ليضطر لتغيير تصريحه انسياقا لرغبات الشركاء الانتهازيين .وثانيهما تسوالا مريبا طرحه علي صديق من الوسط الثقافي العراقي بعد ان شاهد حوارا تلفزيونيا للسياسي الكوردي فاضل ميراني على قناة ال BBC كنت احد ضيوفه برفقة زملاء آخرين من كافة القوميات والاطياف .يقول ال(صديق) “هل بعت نفسك للكورد “!!!
رددت عليه بهدوء كامل ،تلافيا للتشنج والتناحرات التي لاتفضي ابدا الى تفاهمات كم نحتاج اليها في هذه الحقبة العصيبة بالذات:
* بل ان احاول ان ابيع نفسي للكورد ولكنهم لايشترون ،لانهم مترفين بقناعاتهم وايمانهم اكثر مما نتوقع،ثم مالذي يمنعك من الايمان بشرعية احقيتهم باعلان دولة !
– وهل انت مؤمن بذلك؟
* لاامتلك اي تبرير منطقي او شرعي استند اليه لامتنع عن الايمان بذلك،باستثناء شعور واحد لابد من الاعتراف به ،هو انني فقط اشعر بالحزن المبكر على الخسارة التي ستحل بالعراق حال استقلال الكورد لانه سيخسر شعب نقي ومقاتلين اشداء !
– (صمت)
* ثم الا تعلم ياصديق ان عمر الكورد يتجاوز الخمسة الاف عام ،فيما اعلنت امم انفسها دول ولم يتجاوز عمرها عمري او عمرك على هذه الارض! ان كنت تبرر بالقومية فهم ليسو من قومك ياصديق فيما تدوّل بعض قومك ولم تعترض .وان كنت تبرر بالوطنية فعمر خارطة وطنك لايتجاوز المئة عام ياصديق ! وان كنت تبرر بالدين فهات لي نصا يحرم عليهم ذلك ان استطعت! الكورد سيعلنون دولتهم المشروعة ولن ينقلب الكون كما تعتقد ياصديق!
بهت الذي سأل واختفى منذ ذلك اليوم ولااظن اختفاءه بغضا اوخصاما لكنه الحق الذي يصفع الناس عندما لايجدوا تبريرا مقنعا يسندوا اليه اعتقاداتهم الخاطئة التي لايرغبوا بمغادرتها ابدا ليس الا بدافع الرغبة بصناعة الخصوم .