الكوت تحترق.. والدولة تبتسم للصورة الجماعية

الكوت تحترق.. والدولة تبتسم للصورة الجماعية

في مساءٍ كالحٍ من تموز 2025، اشتعلت الكوت. لم يكن الحريق حادثًا عرضيًا، بل تتويجًا مأساويًا لمنظومة فشلٍ مزمن، ونتاجًا صريحًا لعقدين من التفكك المؤسسي والإهمال الذي تحوّل إلى “عرف إداري”. أزهقت النيران أرواح أكثر من 120 إنسانًا، بعضهم تفحّم حدَّ التلاشي، وكأن المدينة تحترق بما تبقّى من ضميرٍ جمعي لم تعد الدولة تمثّله.

ليست الكوت مدينة تحترق فحسب، بل وطنٌ يُحرق على جرعات. لم يكن الحريق في مجمعٍ تجاريّ جديد، بل في بنية دولة هرِمة، فاسدة، لا تُفرّق بين الإنسان والحطام. مئة وعشرون جسدًا احترقوا في الكوت، وبعضهم لم يبقَ منه ما يُعزّى به. أرواحٌ نقيّة، بسطاء كانوا يبحثون عن لقمةٍ في سوق أو لحظة فرحٍ في مطعم، احترقوا لأن الفساد لا يخجل من التواقيع، ولا يخاف من الدم. فاجعة الكوت ليست حادثًا عابرًا، بل شهادة وفاة أخرى لوطنٍ لم يعد يستحق أن يُسمّى دولة.

لا ينبغي النظر إلى الفاجعة بوصفها “حادثًا عرضيًا”. فالدولة حين تسمح بافتتاح مجمعٍ تجاريّ من خمسة طوابق بلا أدنى مقومات السلامة، ولا إشرافٍ حقيقي من الجهات الفنية، إنما تعيد إنتاج الجريمة باسم القانون. ومن المؤسف أن مؤسسات الدولة لم تُعدّ للحريق مجرّد استعدادٍ طارئ، بل كانت مشارِكة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في صناعته: بمَنح التراخيص العشوائية، بتعطيل سلطة الرقابة، بتقنين الفساد ضمن شبكة من المصالح المتبادلة.

لم تعد الكارثة في عدد الضحايا، بل في تَحوُّل الإنسان العراقي إلى رقمٍ باهت في نهاية بيان صحفي. تُذكر أعداد الموتى دائمًا بنبرة بيروقراطية باردة، تعقبها جُمَلٌ نمطية عن “اللجان العليا” و”التحقيقات الشفافة”. لكن التجربة العراقية أثبتت أن اللجان لا تُنجز إلا النسيان، وأن “الشفافية” ليست سوى طقس لغوي يُستدعى عند الكوارث، ثم يُطوى مع انتهاء العاصفة الإعلامية.

في المقابل، كيف تعاملت دولٌ أخرى مع مآسيها؟ حين شبَّ حريق بسيط في كندا أسفر عن مقتل شخصين، اعتُبر ذلك “فشلاً وطنياً” استدعى اعتذارات علنية، واستقالات طوعية، وإعادة هيكلة لأنظمة الطوارئ. في اليابان، حين انزلقت عجلة قطارٍ وراح ضحيتها شخصٌ واحد، أوقف المدير التنفيذي عمله، وتقدّم باعتذاره باكيًا أمام كاميرات العالم. في فرنسا، حين اختنق طفلٌ في لعبة ترفيهية، اعتُقلت الإدارة، واستقال الوزير. في النرويج، حين فشل حارس في إنقاذ طفلٍ غرق في مسبح عام، أُغلقت المدينة الترفيهية حتى إشعار آخر.

أما في العراق، فعدد الضحايا لا يحدد حجم رد الفعل، بل حجم الكتمان. حين يموت مئة وعشرون إنسانًا محترقين، يتصدر السياسيون بيانات التعزية، ويتناوبون على نشر صورهم بالحبر الأسود، ويتفقون بصمتٍ مريب: “الحريق سببه تماس كهربائي”. كأن الدم صار عادياً، وكأن الأجساد التي تفحمت لا علاقة لها بالأرض التي تنزف.

يقول المفكر الفرنسي ألبير كامو: “أسوأ ما في الدولة الفاسدة أنها تُحمل الضحية مسؤولية موته”. هكذا تُعزينا الحكومة، وكأننا شعب يهوى الحريق، ويصنع الموت بيديه. الكوت اليوم ليست مدينة منكوبة، بل شاهد عدل. نُكبتها تُدين سكوتنا، تُدين نظام الحكم، تُدين الكراهية المتبادلة بين السلطة والشعب، تُدين من اختار “قريبه” بدل المختص، و”ابن طائفته” بدل الأمين، تُدين العقلية التي ترى في الوظيفة غنيمة، وفي المال العام سبيًا، وفي الرقابة خيانة.

في العراق، لا تُبنى الدولة بقانون، بل بشفاعة، لا تُدار المؤسسات بالكفاءة، بل بالمحسوبية. فكيف لا تحترق المدن؟ أيها العراقي الذي تحترق حولك المدن: منذ متى أصبحنا نعدّ شهداءنا كما تُعدّ درجات الحرارة؟ منذ متى أصبحنا نبحث عن اسمٍ بين قوائم الضحايا ولا نرفع صرخة؟ منذ متى مات الحياء في عيون رجال الدولة، حتى صاروا يعزوننا بنبرة القاتل لا بنبرة الإنسان؟

قال الإمام علي عليه السلام: «ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني». واليوم نقول: ما احترق بريء إلا بما بناه فاسد. وما تأخرت سيارات الدفاع المدني إلا بما سُرقت به ميزانياتها، وما صمتت الدولة إلا لأن الصمت صار شعارها الرسمي منذ سنين.

نعـــم ، يواجه العراق اليوم أزمة عميقة في العلاقة بين السلطة والمجتمع. فمن الناحية الفلسفية، السلطة الحديثة هي التي تتأسس على الاعتراف، أي على إدراك متبادل بين الحاكم والمحكوم، تُنظّمه القيم والمساءلة. لكن في الحالة العراقية، باتت السلطة تمثّل قطيعة أخلاقية مع المجتمع؛ لا ترى فيه مواطنًا، بل عائقًا، أو كيانًا هامشيًا قابلاً للاحتراق، حرفيًا.

وهنا يمكن استدعاء مفهوم “عنف الإهمال” الذي تحدث عنه باحثو علم الاجتماع السياسي: حين يتحوّل الإهمال المؤسساتي إلى أداة سلطوية، يصبح الصمت عن الخطر فعلًا مُتعمّدًا، وتتحوّل الكارثة إلى وظيفة غير معلنة من وظائف الدولة.

عند هذا المفترق، لم يعد السؤال هو: من أشعل الحريق؟ بل: من جعل الحريق ممكنًا؟ من صمتَ حين انتهكت القوانين؟ من بارك ثقافة “الواسطة” على حساب الكفاءة؟ من روّج لخطاب الطائفة بدل خطاب المواطنة؟ من عطّل رقابة الدولة لتصبح أداةً بيد الأحزاب؟ من جعل المؤسسات مجرد امتداد لعلاقات القرابة والنفوذ لا للضمير الوطني؟

إن المسؤولية هنا ليست جنائية فحسب، بل أخلاقية وتاريخية. فكما يقول إيمانويل ليفيناس: “الآخر هو اختبار ضميرك”. وإن لم نهتز لحريق الكوت، فقد فشلنا في اختبار الإنسانية.

إن الغضب وحده لا يكفي. ما بعد الحريق يجب أن يكون بداية جديدة لمساءلة الذات الجمعيّة. يجب أن نخرج من طور الحزن السلبي إلى طور الفعل المدني: عبر المطالبة بلجنة مستقلة دولية للتحقيق، تشريع قانون للمساءلة عن الكوارث العامة، محاكمة المسؤولين عن الفساد الإداري، ومراجعة شاملة لآليات الإنذار والسلامة في كل منشأة.

لكن قبل ذلك كله، علينا أن نعترف أننا كمجتمع لم نعد نُجيد الغضب النبيل، ولا الحزن العادل. نسينا كيف نرثي موتانا ونحن ندفنهم جماعيًا، بلا صرخات كافية.

// هلسنكي 18.7.2025

أحدث المقالات

أحدث المقالات