شاءت حكمة المولى أن نجتمع اليوم في سفينة واحدة وأن نساهم جميعا ، وكل من موقعه في قيادتها مدركين بوحدة المصير والقدر الذي يقودنا الى شاطئ الأمان .
وليس غريبا أن يدّعي كل منا بالتأريخ العريق والجهد الذي بذله في المساهمة في بناء لبنات مؤسسات هذه الدولة العريقة ، وكل منا لديه العشرات بل المئات من القصص والأحداث عبر مسيرة طويلة من أروع سنوات عمرنا أمضيناها في بناء وخدمة هذا الصرح العظيم ، وكل منا لديه بصمة هنا أو هناك ، ضمن شواخص شامخة تشهد بها عراقنا من خلال مشاريع جبارة ، نفذت من أقصى الشمال إلى أطراف الجنوب .
ورغم سنوات البأس واليأس والاضطهاد و الحروب والحصار المرير ، حافظت كوادر هذه الشركات على شرف المهنة وأخلاقياتها وأخص بالذكر في مقدمة هذه الكوادر المهندسين الذين لم تغيرهم تقلبات الزمن ولم تتمكن مخالب الزمن من خدش روحية الصبر والتحدي التي يمتلكونها .
أما اليوم فقد كتب لنا أن نعيش لنرتقي العهد الجديد من تأريخ هذا البلد الجريح ، والأمل معقود على المتصدين من الشرفاء المتواجدين في ساحة التحدّي ، في تحمل القسم الأكبر من مسؤولية إعمار هذا البلد المدمّر والمنهار ، وقد قدّمنا كلمة الأعمار وجعلناه الهدف الأساسي لنا ، نمرّ اليوم باختبار عصيب وفريد من نوعه ، وهي أن السفينة التي تجمعنا لتنقلنا الـى بر الأمان ، تعاني من التصدّعات ، وأن هذه التصدّعات باتت تثقل كاهلنا ، وبدأت تجرفنا بعيداً عن مسارنا ، وكلنا ندرك جيداً قساوة الظروف القاهرة والاستثنائية التي تمر بها البلد وأنعكاساتها الخطيرة التي ليس بالوسع التقليل من شأنها إلا إذا ابتعدنا عن مسار وطنيتنا ، ودخلنا في دهاليز الإنتهازية والأنهزامية التي لا تؤمن بالشعور بالمسؤولية وعدالة التصرّف .
لقد حققت الشركات العامة الهدف الذي تم إنشاؤها من أجله في الفترة التي تم تأسيسها ( سنوات الحرب العراقية- الأيرانية ) ، وكما جاء في المادة (٢) من قانون الشركات العامة ، (( لبلوغ اعلى مستوى من النمو في العمل والأنتاج واعتماد مبدأ الحساب الأقتصادي وكفاءة استثمار الأموال العامة وفاعليتها في تحقيق اهداف الدولة ورفع مستويات اداء الأقتصاد الوطني )) . حيث نفذت العديد من المشاريع الستراتيجية في الوقت الذي ترددت الشركات الأجنبية بل إنسحبت بسبب الحرب ، وكذلك تم تنفيذ معظم المشاريع التابعة للدولة ذات الطابع السري أو الحيوي ، ونتيجة لأكتساب كوادرها الخبرات وأمتلاكها البنى التحتية المتينة من آليات ومكائن ومعامل ، تمكنت هذه الشركات من إعمار العراق بوقت قصير بعد الدمار الشامل الذي أصاب العراق في عام ١٩٩١ ، مع التذكير بعوامل أخرى مهمة ساهمت في ذلك ، أهمها القبضة الحديدية للدولة ، والأدارة المركزية المقيتة بجانب الدعم المالي المفتوح ، التي ساهمت جميعها في إنتزاع جميع مكامن الطاقة من المهندس العراقي . لكن ظروف الحصار المفروض على العراق وتأثيراتها على جميع مفاصل الحياة بدأت تنهش بجسد المهندس العراقي قبل جسد الشركات ، أمام عجز الدولة وفشلها في المقاومة ، فبدأ الأنهيار من منتصف تسعينات القرن الماضي . وجميع المحاولات التي خاضتها الأدارات المختلفة منذ ذلك التأريخ والى يومنا هذا ، لم يتعدى سوى الأصرار في البقاء في دائرة الوهم ، وعدم القناعة بمغادرة هذه المحطة ( نتيجة جهل أو سوء إدارة أو مخطط مدروس !!!) ، حتى تحولت هذه الشركات الى كهوف مظلمة ، عجزت جميع الأدارات عن تغييرها .
وعند الخوض عن أي حديث عن المحاولة لمعالجة جوانب الفشل التي منيت بها هذه الشركات ، وبناء على مقتضيات الواقع الجديد ، نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام القوانين والتعليمات النافذة التي أصبحت لا تنسجم ولا تواكب الظرف الحالي ولا توفر الحلول اللازمة لمعالجة العجز الحالي وبالتالي يكون مصيرنا الإخفاق والفشل .
علماً بأن تلك القوانين والتعليمات التي مازالت نافذة الى يومنا ، هي التي أوصلتنا الى حافة الأنهيار نتيجة ركودها وعدم مواكبتها التغييرات التي حدثت وتحدث في محيطنا . وما زاد في الطين بلّة ظهور ( جهابذة العصر ) الذين نصّبوا أنفسهم مشرّعين أو مفسّرين لنصوصها حسب أهواءهم ، مرتكبين أخطاء جسيمة بحق مؤسسات عريقة .
إن التناقض والعشوائية في القرارات التي نعيشها اليوم ، بغض النظر عن الأسباب الحقيقية ( جهلاً كان أو سوء إدارة أو إجتهاد شخصي ، أو مخطط مدروس ) ، أصبحت سمة واضحة من سمات العصر الجديد ، بل باتت تشكّل مشهداً حقيقياً لواقع ( الفوضى الخلّاقة ) !!!!