مع بداية ثمانينات القرن الماضي احتاجت منظومة نقل الطاقة الكهربائية في العراق إلى التوسع مع إنجاز ما خطط له من مشروعات تدعم البناء القائم لمنظومة طاقة وطنية تتمتع بموثوقية عالية ومزايا تجهيز متطورة لتأمين حاجة العراق من الكهرباء لتساير الخطط التنموية ومشاريعها الاستراتيجية، التي شرع بتنفيذها في عموم مساحة البلاد. تعاقد العراق مع إحدى الشركات المصرية المتخصصة بالصناعات المعدنية لتأمين مئات الأطنان من القطع الحديد (نصف المصنعة)، التي تدخل في تركيب أبراج نقل الطاقة الكهربائية للضغط الفائق على أن يتم إكمال تصنيعها بتسخير إمكانات منشأة نصر العامة العراقية، بعد تشغيل معمل الغلونة فيها، آنذاك.
حسب السياقات السائدة، في مثل هذه التعاقدات، بدأت رحلة الوفد الفاحص إلى القاهرة، وقد ترأسه المهندس صباح جواد، المتمرس بمشاريع تشييد خطوط النقل، وتوجه الوفد إلى منطقة شبرا، التي يقع المعمل الخاص بتصنيع القطع الحديد فيها كذلك الساحة المخصصة لإجراء الفحوصات الميكانيكية والمجهزة بالمعدات والأجهزة المطلوبة لإنجاز هذه الفحوصات، لم يقتنع الوفد الهندسي الفاحص، الذي كنت أحد أعضائه وكذلك رئيسه بالاطلاع فقط على نتائج الفحوصات المعملية، التي أجراها الجانب المصري، قبل وصول الوفد، بل تم الطلب أن تجري الفحوصات بحضورنا ليتم تأييد النتائج والتوقيع المشترك عليها، بعد جولة من الحوارات الطويلة.
جرى، أخيراً، الاتفاق على إجراء الفحوصات الفنية في صباح اليوم الثاني على أن يركّب المعمل البرج النموذج، الذي سوف تجري عليه الفحوصات، بعد أن تم اختيار عينات عشوائية من القطع الحديد لبناء هذا البرج من الكميات المطروحة، التي كانت جاهزة للشحن باتجاه العراق، حضر الوفد في الموعد المحدد المتفق عليه، وهنا حصلت المفاجأة السيئة مع بدء الاختبار الأول من فحوصات الشد (تسليط قوى محسوبة باتجاه أفقي) فقد سقط البرج العملاق وانبطح على أرض الساحة محدثاً دوياً شديداً، وكاد أن يؤدي ذلك إلى إصابة جسمية خطيرة للمهندس ضياء (مدير معمل الغلونة في منشأة نصر العامة) أحد أعضاء الوفد لولا رعاية الله له.
في جو امتزجت فيه مظاهر الفوضى، الذي خلفها سقوط البرج مع معالم الاحراج، الذي كست وجوه المصنعين من الأشقاء المصريين، انسحب الوفد من الموقع ليغادر إلى بغداد، لاحقاً، بعد أن تم الاتفاق على أن تعيد الشركة المجهزة الحسابات التصميمية الفنية الخاصة بمتانة القطع الحديد المستخدمة وسماكتها.
السؤال، الذي يمكن تناوله الآن: ماذا لو اقتنع الوفد الفاحص بطلب الجانب المصري واكتفى بعرض الفحوصات الفنية التي نفذها، وتم تصدير هذه الاطنان من القطع الحديد إلى العراق لتستخدمها دوائر الكهرباء المعنية في تنفيذ المشروعات الخاصة بنقل الطاقة الكهربائية وما سوف يعقبه من تساقط مستمر للأبراج.. لو حصل هذا كانت المنظومة الكهربائية الوطنية ستتحمل نتائجه، وتالياً كانت مصالح المواطنين المختلفة ستتضرر، بالإضافة الى تبديد ثروات البلد في توريد مواد غير صالحة للاستعمال، وكما يحصل، الآن، حيث عدم اكتراث الاطراف، التي تضع مصالحها أولاً لتتقدم على مصلحة المواطن ومرافق حياته المختلفة، بهذا الجانب.
وددت من سرد هذه الواقعة الإشارة إلى ما تعنيه سلامة اختيار أعضاء الوفود الفاحصة لمواد الشبكة الكهربائية المختلفة، التي من شروطها الأساس المعرفة الفنية، بالإضافة الى مستوى السلوك المهني والشخصي النزيه الذي يجب أن يميز أعضاء هذه الوفود.