في السنة الدراسية (1975 ـ 1976م) على ما أتذكر جرت المحاولة الأولى من قِبل طلاّب قسم الهندسة الكهربائية لكلية الهندسة/ جامعة بغداد بإستخدام الكمبيوتر لإختيار فتى أو فتاة الأحلام بين طلاّب وطالبات الجامعات والكليات في بغداد كأحدى الفعاليات الطلابية في مهرجاناتهم السنوية!!، وكانت الغاية منها بالدرجة الرئيسية إضفاء جو من المرح والتغيير على نوعية الفعاليات وإدخال البرمجة الحاسوبية التي كانت تعتبر حينها جديدة ومستحدثة، ووزعت الإستمارات الخاصة ببرمجة الكمبيوتر في الكليات للتأشير أمام مواصفات النصف الآخر فعسى ولعل تتدخل (التكنلوجية) الحديثة في إيجاد شريك أو شريكة الحياة بشكل أفضل من إختيارات العقل البشري!!!، وكان على المشتركين أو الباحثين عن نصفهم الآخر الذهاب الى كلية الهندسة لتسليم الإستمارات، فقررت مجموعتنا من الزميلات والزملاء في الجامعة التكنلوجية الذهاب الى كلية الهندسة وسط أجواء من المرح والنكات الشبابية على هذه المبادرة المستحدثة!!!، وقد كانت إحدى زميلاتنا الجميلات تتطلع بجديّة محسوسة نسبياً الى عثورها بهذه الطريقة على فتى أحلامها ذو المواصفات (الخارقة) من شكل حسن وغنى وشخصيّة وحيوية ومستقبل وكلية مرموقة تقود الى مركز وظيفي وإجتماعي متميز و ـ ـ و ـ ـ الخ، وحيثُ كنتُ أناكفها بقولي: من أنّ فتى أحلامها سيكون بطلبية خاصة من السماء لأنه لم يُخلق بعد، وكنّا نضحك ونتبادل السخرية والمناكفات الشبابية فيما بيننا.
ذهبنا الى كلية الهندسة فكانت المفاجئة أن أجد أحد المسؤولين عن إستلام الإستمارات من طلبة قسم الكهرباء هو أحد أقربائي!!!، وبعد أن لاحظ (الإنسجام والتقارب) ما بيني وبين زميلتي تصور بأننا قد أشرّنا في إستمارتينا على نفس المواصفات وحيثُ زالَ هذا التصور من ذهنه بعد إطلاعه على الإستمارتين!!!، وسألني قريبي إذا كان في بالي أي فتاة معجب بها في الجامعة فأنه يستطيع برمجة الكمبيوتر لتتطابق إختياراتنا!!!، فسخرتُ من عرضهِ وأصريتُ على إبقاءه للإختيار كما هو وسنرى ماذا سيفعل الكمبيوتر (الذكي) لأختيار المحبين وسط تبادل كلمات المزاح والإستخفاف بهذه الطريقة بشكلٍ عام!!!.
ظهرت النتائج بعد أسابيع ويبدو من أنّ المواصفات التي أشرّتُ عليها في الإستمارة لم تنطبق على أي فتاة!!!، لكنني تفاجئت في أحد الأيام حين أقبل عليّ طالب لم آراه من قبل في الجامعة وسألني بلهفة عن إسمي ليتأكد من أنني الشخص المطلوب!!!، فأجبته بالإيجاب وسط دهشتي التي أزالها سؤاله الثاني عن زميلتي الحسناء!!!، فأدركت للحال سبب سؤاله وسط صدمتي الممزوجة بالتعجب والسخرية المكبوتة!!!، فالشخص كما بدا لي حين سألني مستفسراً عن شريكة حياة المستقبل لم تكن فيه ولو نسبة واحد في المئة من المواصفات التي وضعتها زميلتي الجميلة!!!، فشكله ذكرني بشخصية “فنسنت” في مسلسل “الحسناء والوحش” وهيئته وشخصيته بدت لي سلبية ومهزوزة بحركاته وتصرفاته وشعرت بالآسى على زميلتي التي بدون أدنى شك ستفقد الثقة (بالتكنلوجية) وهي في منتصف مراحلها الجامعية التي من المفروض أن تكون التكنلوجية إحدى أسسها المهمة، لكنني عُدّت من صدمتي بلحظات وقلتُ في نفسي سأكون أتعس “دليل” وفي موقف لن أحسد عليه!!!، لكنني رغبتُ أيضاً بالتهرّب من المشوار وسط الحرج أمام (زوج المستقبل) لزميلتي في حال طلبي منه بإعفائي من هذه المهمة الصعبة!!!، وبروح شبابية وطلاّبية مرحة رحبتُ به وسألته إن يرغب بالذهاب الى نادي الجامعة لتضييفه أولاً لكنه رفض وسط شعوري بعجلته لرؤية نصفه الآخر!!!، وفي طريقنا الى المكان الذي إعتادت مجموعتنا الطلابية التجمع فيه في إحدى حدائق الجامعة وفضاءاتها بدأ يسألني الضيف عن زميلتي بدءاً بشكلها وأناقتها وـ ـ و ـ ـ وكأنه جاء لشراء سيارة!!، فقاطعته بإسلوب فيه مسحة من الجديّة بقولي من أنه سيحصل على أجوبة لأسئلته بعد دقائق!!!.
لمحتنا زميلتي ومجموعتنا الطلاّبية عند إقترابنا من حلقتهم وسط دهشتهم وتساؤلاتهم بالنظرات الموجهة نحوي عن هوية الزميل الذي لم يشاهدوه من قبل برفقتي!!!، وحال وصولنا عرفّت الجميع على إسمه وبشكل متبادل بدأت أعرّفه بالمجموعة مركزاً على إسم زميلتنا وتركت له الباقي من الكلام الذي حين بدأه سيطر الوجوم والصدمة والدهشة على الجميع وخاصة زميلتنا التي غابت عن الوعي الإدراكي لثوانٍ وكأنها ليست بيننا وعاشت في كابوس مخيف!!!، وكان من الممكن ملاحظة أحاسيس زميلاتنا بمشاركتها لشعورها المهبط وهذا طبيعي في مثل تلك المشاركات الوجدانية بين بنات حواء عندما يتعلق الأمر بإختيار شركاء حياتهن!!!، لكن الزملاء ظهرت على محيّاهم إبتسامات مرّة!!!.
ولكي نتجاوز جميعنا هذا الموقف الذي لم يكن إلاّ مزاحاً طلابياً إنقلب الى موقف جدّي لإحدى زميلاتنا من جرّاء هذه المبادرة (اللعينة) في إحلال (العقل الألكتروني الذكي الذي لا يخطئ) محل (العقل البشري الذي قام بصنعه)!!!، بادرتُ بحركة (خفية) في الإيعاز لمجموعتنا بالإنصراف وترك الإثنين بمفردهما لتفادي الموقف وإحراجاته ولإعطاء الفرصة للمعنِيَيْن بالأمر لحل (خطأ الكمبيوتر)!!، فصرخت بي زميلتنا: الى أين أنتم ذاهبون؟؟؟!!!، فأجبتها ليس ببعيد عنكما لكن علينا أعطاكما فرصة للتعارف مع إبتسامة مني لم تخلو من معانٍ كثيرةٍ!!!، فالتفتت بإرتباك وشيء من الإنفعال الى ضيفها وقالت له بكلام رسمي: ” شوف زميلي ترى الأمر من أوله الى آخره كان مزاح ولا تأخذه بجدية وفرصة سعيدة تعرفنا عليك”، لكن الضيف يبدو أنه وقع في “الحب من أول نظرة” وطلب منها فرصة أخرى لزيارتها والتعرف على بعضهما أكثر فرفضت متعللة بأنها مخطوبة!!!.
فقدت زميلتنا الحسناء بعد هذه الصدمة ثقتها بالكمبيوتر وتكنلوجيته!!!!، وكانت دائماً تردد بحرقة جملتها: “شگد هذا الكمبيوتر غبي”!!!، فكنّا نضحك ونمازحها بإصرارنا على أنّ الكمبيوتر لا يخطأ ونقول لها: “يعني قابل الكمبيوتر يچذّب”؟؟؟!!!، فتقول بعصبية: “بالنبي مو هذا اللّي إختاريته”!!!، فلم تدرك زميلتنا بأنّ ذكاء وغباء الكمبيوتر مربوط بذكاء وغباء مُبرمِجه الذي يتحكم بتغذيته بالمعلومات لكي يعطي نتائج حقيقية أو كاذبة، وأي غلطة صغيرة تقلب النتائج رأساً على عقب!!!!.
والآن يعيد التاريخ نفسه ولكن بإتجاهٍ آخر في إختيار الفرز الألكتروني لأصوات الناخبين للإنتخابات العراقية المقبلة، وربما (تسلّق) أحد طلاّب الهندسة لتلك الدورة أحد المراكز الحكومية الحالية وهو الذي إقترح إستخدام هذه الطريقة في بلدٍ لا تزال العملية الديمقراطية التي ولدت فيه مستلقية في حاضنة الولادات (للخُدّج) ممن لم يكتمل نموها بعد والمبكرة بقدومها الى الحياة وتحتاج الى عناية مركزة في بيئة معزولة تماماً عن (الفايروسات) التي لا طاقة لها للعيش في بيئتها قبل إكتمال مناعتها الذاتية ضدّ الإصابة بها والمنتشرة في المجتمع.
وكم هو قلقنا جميعاً أن يتكرر مشهد زميلتي في الفرز الألكتروني لأصوات الناخبين للإنتخابات المقبلة!!!، فيتكرر خطأ (المُبرمِج) ويخطأ الكمبيوتر في إختيار ممثلي الشعب!!!!!، وبدلاً من أن يختار لهم “قائد أحلامهم” يختار لهم “فنسنت” آخراً ليس بشكله الذي لا إعتراض على خلقة الخالق له، ولكن بجوهره القبيح!!!، وحيثُ أنّ زميلتي الحسناء إستطاعت تجاوز خطأ الكمبيوتر في لحظتها، لكن على الشعب العراقي الإنتظار أربع سنوات تقويمية أخرى ليتجاوز خطأ الكمبيوتر اللعين!!! ـ ـ ـ وما أدراكم ماذا سيحصل فيها من كوارث!!!.