23 ديسمبر، 2024 10:36 ص

الكليات العسكرية شيء من الزهو وفرح الشباب

الكليات العسكرية شيء من الزهو وفرح الشباب

كانت الامور في السابق أجمل بل اروع بكثير بالرغم من بساطتها وشظف العيش بحيث من غير الممكن مقارنتها بالحاضر على الاطلاق , أختلفت واختلت في كل شيء كان حلم لأكثر الشباب خريجي الاعدادية أن ينتسبو للجيش من خلال الكلية العسكرية وكلية القوة الجوية ليتخرجوا بعدها بصفة ضابط , حلم يراود الشباب لأمور كثيرة أولها التباهي والزهو والمكانة الاجتماعية المرموقة لما تحمله العسكرية من تقدير عالي في عيون المجتمع فترى الشاب يحلم بأنتسابه الى هذه الكليات الرائعة ،؛ الكلية العسكرية وكلية القوة الجوية ؛، الفرحة العظيمة عندما تظهر اسماء المشمولين في القبول في هذه الكليات , تعم الفرحة كل عائلة المقبول لا بل تتعدى ذلك الى كل العشيرة لأن من ينتسب للسلك العسكري مثار فخر واعتزاز وشرف يميزه عن الآخرين  ,كانت المؤسسة العسكرية لا تقبل في صفوفها شخص غير سليم من الناحية الصحية والبدنية والاخلاقية وهذه الاخيرة مهمة جداً فالمنتسب مُنزّه من كل العيوب سلامة عائلته وسلوكه العام وغير محكوم بجنحة أو جناية مخلة بالشرف . بعد عناء نفسي مرير وعسير من فحوصات صحية ونفسية وعقلية وأختبارات بدنية شاقة , بعد ذلك يتقرر قبوله في الكلية العسكرية او الجوية , عند مباشرة الطالب في احدى هذه الكليات يُحلق شعر رأسه يطلق عليه بالعراقي ( زيان نمرة اربعة ) ومن ثم يتم تجهيزه بالملابس العسكرية المقررة وأهمها عند الطالب بدلة القيافة العسكرية التي يرتديها عند النزول في الاجازة ويزود بحقيبة مكتوب عليها اسم الكلية و عصى التبختر , البدلة عادة ما تكون مكوية بعناية ونظيفة والحذاء مصبوغ  وهذا الزي يكون على نوعين شتوي وصيفي , يكاد من يرتديه لأول مرة أن يطير من الفرحة في الاجازة الاعتيادية ( النزول الاول ) وتكون يومي الخميس والجمعة يخضع الطلاب للمشاهدة من قبل آمريهم على تمام قيافتهم , بعد ذلك يتم نقلهم بباصات الكلية الى نقاط ثابتة ومعلومة يتجمعون عندها في الالتحاق بكلياتهم , الاجازة الاولى فرحة لا تصدق ترى الشاب ملتزماً بما تعلمه في ايامه القليلة من تدريب ومحاضرات , تراه يحرص في مسيره على رفع رأسه  وأبراز صدره ويسير بأعتدال وانتظام حاملاً حقيبته وعصى التبختر يمتنع عن التدخين اثناء السير , في بداية دخوله الى منطقة سكناه ( المحلّة ) يبحث بعينيه عمن يشاهده شاعراً بالفخروالزهو , عند مروره من امام مقهى المنطقة يسلّم من بعيد على  الجالسين . يتهامس كبار السن متسائلين . . يبادر احدهم أكُلك ابو ماجد هذا الولد ابن من . . يرد عليه ابوماجد . . هذا سامي ابن فاضل الحداد . . فَيُعجب المتسائل ويقول . . ها . ما شاء الله راح ايصير ضابط والله يستاهل ونعم الاخلاق .ـ أبن حَمولة والنعم منه ومن ابوه .. من ايشوفني شايل علاكة المسواك يجي ركض ويشيله عني .. صدك ناس طيبين ـ ـ يشاركهم في الحديث جليس آخر .. عمي هاي أخلاقنا أنعكاس على اخلاق ولدنا ـ ـ يرد ابو ماجد .. صحيح التربية إلها دور ـ ـ  عند وصوله لداره الام والاب في الانتظار والاخوة الصغار في باب الدار متحفزين للقائه والاحتفاء به على طريقتهم الخاصة ( إجه سامي … إجه سامي ) صياح وتصفيق وسباق فيما بينهم على حمل الحقيبة وعصى التبختر وغطاء الرأس وملامسة أزرار قميص البدلة العسكرية  النحاسية اللماعة  مندهشين ومعجبين بزيه العسكري والنسوة من الجيران يزغردن وينثرن ( الجكليت على رأسه ؛ وَهليّة ) مع كلمات متواترة مكررة ؛ كرة عينج ام سامي ؛ تحضن الام ابنها وتكاد تطير من الفرح وهي تتباها بأبنها امام الجيران والدموع تنهمر من عينيها من شدة الفرح وكذلك الاب يشعر بالزهو والرضا معتبراً ذلك نجاح لهُ على صحة تربيته وتعليمه وما آل اليه أبنه , في الدار يستقبل أصدقائه وجيرانه من المهنئين والزغاريد تملئ الدار والفرحة تعم الجميع . ينقضي يوم الاجازة بسرعة , وعند الالتحاق يودعه أهله واخوته الصغار معجبين بزي طلاب الكلية الجميل يغادر وهو يحرص على السير بأستقامة العسكري المنضبط محركا عينيه يميناً ويساراً ليرى ردود فعل من يراه من اهل المنطقة وخاصة بنات المحلة . بعد طول معاناة والسنين التي يقضيها في الكلية , يحين موعد التخرج ليمنح بعدها رتبة ملازم ثاني ( نجمة على الكتف ) العائلة تترقب يوم التخرج بشغف كبير , واذا كانت عائلة المتخرج ميسورة الحال تصوخ له نجمة من الذهب وتهديها لأبنها . يأتي يوم التخرج وكل الاهل والاقارب والاصدقاء يحرصون على الحضور والمشاركة وعادة ما تكون حفلة التخرج في مقر الكلية التي يدرس فيها . يحضر الحفل كبار القادة العسكرين والمدنين من الساسة والنخب الاجتماعية وغيرهم , يبدأ الحفل بعزف السلام الجمهوري معلناً المباشرة بمراسم الاحتفال بقراءة آياة من القرآن الكريم ثم قراءة سورة الفاتحة وقوفاً على ارواح شهداء الجيش ومن ثم يبدأ الاستعراض العسكري يتقدمهم آمر وضباط ومعلمين الكلية تعقبهم كوكبة من حملة اعلام الدول العربية ثم فرقة موسيقى الجيش يقودهم آمرها حاملاً صولجانه الطويل لضبط الايقاع صادحة بأبواقها الكبيرة ودماماتها الرنانة عازفة النشيد التقليدي المحبوب للجميع المثير للحماس عسكرين ومدنين .

لاحت رؤوس الحرابِ . . . تلمعُ بين الروابي

أهلاً اسود البوادي . . . أهلاً حماة البلادِ

هاكم وفود الشبابِ . . . هيا فتوة للجهادِ

هيا . . هيا هيا هيا . . هي . . هيا فتوة للجهادِ

وكذلك نشيد

لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحما

لبيك وأجعل من جماجمنا لعزك سلما

لبيك .. لبيك .. لبيك

بعد ذلك تمر كراديس المُستعرضين من امام منصة الاستعراض والحضور من ذوي المستعرضين يدققون في الوجوه عسى ان يشاهدوا ابنائهم .. منظر بديع مثير للدهشة والفرحة . بعد الانتهاء من الاستعراض يتفرق الجميع ذاهبين كلٍ الى مرامهِ المقصود , ويرتدي الطلاب القيافة العسكرية الجديدة  واضعين الكوكبة ( النجمة ) فوق أكتافهم , عند ذاك يقوم الاهل في الغالب بذبح خروف وتوزيع لحمه على الجيران بمناسبة التخرج , قبل ذلك تم تنظيف الدار وترتيبه استعداداً لأستقبال المهنئين . بعد ذلك يتم تنسيب المتخرجين من الضباط على الصنوف العسكرية المختلفة , يتغامز الخريجين فيما بينهم مثلاً الذي ينسب الى صنف الدروع يتفاخر المُنسّب لهذا الصنف أمام زملائه قائلاً لهم ( درع ما ينجرع ) والمنسب الى صنف المشاة يقول متفاخراً ( مشاة سيد الصنوف ) أما صنف القوات الخاصة فيردون على الجميع ( ذيابة ليل ) والطيارين يلقبون بصقور الجو , وكذلك بقية الصنوف كلٌ يعتز ويتفاخر بصنفه الذي نُسّبَ اليه . بعد ان تستقر الامور يفكر الأهل بتزويج ابنهم والابن ( يتدلل ) في الاختيار لأنه ضابط , والبنات يحلمن بالزواج من ضابط شعارهن ( لو مُلازم لو مَلازِم ) عادة ما يقوم اصدقاء المتخرج بدعوته يكون ذلك يوم الخميس يتجمع الاصدقاء في مقهى المنطقة والكل فرحين ثم الانطلاق الى  الباب الشرقي مركز مدينة بغداد قاصدين أحدى السينمات المشهورة مثل سينما النصر او الخيام او غرناطة , أغلب الشباب يفضلون سينما الخيام لجودتها وجودة الافلام التي تعرضها , وهناك كازينو أمامها . يجلس الجميع في إنتضار الدخول الى السينما يذهب أحدهم لجلب تذاكر الدخول في هذه الاثناء يتسلى الشباب بتناول المشروبات الغازية أو الشياي وتدخين السكائر الفاخرة التي يشتروها من بياعين (سكائر المفرد) والتي غالباً لا توجد الا في هذه الاماكن مثل سكائر ( الجروت ) و ( لارك ) وغيرها من انواع السكائر , بعد دخولهم السينما ومشاهدتهم الفلم المعروض يقصدون شارع أبو نؤاس المحاذي لنهر دجلة حيث الطبيعة الخلابة الساحرة والهواء العليل والشباب ذاهبة آيبة غارقة في أحاديث مختلفة والعوائل منتشرة في الحدائق العامة حيث الخضرة والاشجار الباسقة وارفة الضلال والكازينوهات البديعة المنتشرة على طول الشارع البالغ طوله حوالي الاربع كيلو مترات أبتدائاً من جسر الجمهورية بداية شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي وحتى الجسر المعلق في الكرادة , وترى أكشاك بيع السمك المشوي ( المسكوف ) منتشرة بين الكازينوهات . وبياعين المخللات ( الطرشي ) منتشرين على طول الشارع عارضين بضاعتهم بشكل مغري يضعون ؛ خيار التعروزي او خيار الماء ؛ فوق لوح موضوع على اناء كبير يضعون المعروض على شكل طبقات ملونة بالون الاصفر او الاحمرالفاتح منثور عليه الكرفس المثروم ورائحة الخل والبهارات النفاذه تغريك بتناوله وكذلك بقية الباعة المتجولين بياعين الترمس ( فستق العبيد ) وغيرهم , في هذه الاثناء يتناقشون حول أختيارهم للكازينو التي يرتادونها وابرزها ( الكاردينيا وبلودان والشاطئ الجميل وقصر الشام ) يستقر الجميع في احداها , قبل ذلك يتفقون مع احد باعة السمك المسكوف على ما يكفيهم لوجبة العشاء والوقت الذي يناسبهم فيرسل بائع السمك احد عماله وغالباً ما يكون من الصبيان لمعرفة مكان جلوسهم , يجلس الجميع في المكان المختار ويتناولون ما لذ وطاب من المشروبات كحولية وغازية وعصائر كلٍ حسب ذوقه وأختياره ويتناولون الانواع المختلفة من المقبلات ( المزة ) في الوقت المتفق عليه مع بائع السمك يأتي العامل حاملاً صينية السمك المطلوبة وبالتوقيت الدقيق , يعلّق أحد الجالسين أخوان ضبّطوا ساعاتكم على (توقيت بكبن) بعدها يغادرون المكان متجهين الى محطتهم النهائية في برنامج سهرة يوم الخميس وغالباً ما تكون أحدى الملاهي المنتشرة في بغداد مثل ( الامباسي والطاحونة الحمراء وملهى بغداد ) وغيرها , بعد أنتهاء سهرتهم يتجهون الى مساكنهم فرحين منتشين سعداء يتضاحكون .

 الحقيقة هذا الحال بدأ يتغير في بداية التسعينيات حيث الغيت البارات وأغلقت كازينوهات ومقاهي أبو نؤاس كأجرائات امنية واقتصادية معروفة نتيجة الاحداث التي مرت على العراق من حصار وغيره , والفاقة والعوز حاصل ذلك . بعد الاحتلال الثلاثيني للعراق أختلفت الامور كلياً أنقلبت رأساً على عقب وبشكل لا يصدق , ألغيت أغلب أماكن الترفية ومعظم المتنزهات وحلت محلها بنايات مختلفة . والمتطوع للجيش كضابط مجرد من الدوافع والزهو الذي ذكرناه مشاعر جافه مثل اوراق الاشجار اليابسة الدافع الوحيد البحث عن وضيفة مجرد فرصة عمل اساسها مادي بحت , المتطوع واهله يحرصون بشدة على سرّية إنتماءه للجيش ويبتعد قدر المستطاع  عن ارتداء زيهُ العسكري مرتدياً الزي المدني بديلاً عنه , لا فرحة ولا هلاهل ولا تهاني ولا جكليت وَهلية ولا أماكن لهو ولا ايام سعيدة بل ينتاب المنتسب وعائلته قلق وخوف مستمر خشية على ارواحهم نتيجة الاحداث المقلقة والمخيفة التي يمر بها العراق من اغتيالات وتفجيرات وعبوات ناسفة ونسف منازل والقائمة تطول الكل في قلق يستشعرون الخطر غير آمنين ولا مطمئنين تبددت الاحلام الجميلة راحت  واصبحت كعصف مأكول …. آه يا حال العراق وشعبه … أسفاً على الاحلام الجميلة وذكرىات الماضي الجميل .