23 ديسمبر، 2024 8:13 م

الكفاءات الزائفة تبدأ هجرتها للخارج لتحصد الامتيازات عندما تعود

الكفاءات الزائفة تبدأ هجرتها للخارج لتحصد الامتيازات عندما تعود

المشهد بات يتكرر مع كل الأزمات التي تمر على العراق ويا مكثرها والحمد لله , فكلما حصلت أزمة تسارعت الكفاءات للهجرة إلى خارج العراق لتعود بعد أن تصدر الحكومة قرارا بمنح امتيازات للعائدين بعد استقرار الأوضاع , وفي ظل هجرتها تعيش أحسن الأوضاع وقد تتمتع بامتيازات من الدول المضيفة وعندما تعود يتم احتساب الانقطاع خدمة عادية أو جهادية مع حق استيراد السيارات والعفش , أما الموجودين في الداخل فان انقطاعهم ليوم واحد يعدونه غيابا وتترتب عليه العقوبات والشبهة بالخيانة وترك الواجب وإيقاع الأذى بالمصلحة العامة , ومن يذهب شابا ويعود مع شيباته من لندن أو السويد أو هولندا أو غيرها يعدونه مناضلا وتفرش تحت أقدامه الزهور رغم إن عودة اغلبهم هي للحصول على الراتب التقاعدي .

لقد بدأت مقالتي هذه بنوع من الانفعال لأنني رأيت بأم عيني بعض من تلك الكفاءات الزائفة تهم بمغادرة العراق وتتزاحم على مكاتب الخطوط للحجز بعد أن حولوا دولاراتهم وهم نفسهم الذين عادوا من هجرات سابقة وتمتعوا بأحسن الامتيازات خلال هجرتهم وما بعدها , فعندما غادروا وأثناء هجرتهم السابقة حولوا المبالغ للعراق واشتروا أحسن العقارات والأملاك في وقت كان شعبنا يعيش على رغيف خبز ( يهص ) لأنه ممزوج بعليقة حيوانية تم إعدادها ضمن مفردات البطاقة التموينية التي لولاها لأصبح أكل لحوم البشر حالة معتادة في العراق , وبعد عودتهم تم السماح لهم باستيراد السيارات الفارهة بدون أرقام لان الدولة كفلت لهم لوحات التسجيل كما تم احتساب هجرتهم لأغراض التقاعد والترفيع رغم إنهم لا سياسيون ولا هم يحزنون .

في سنة 1978 بدأت هجرت الكفاءات بالظهور بشكل جلي في العراق بعد أن انهارت ما سميت حينها الجبهة الوطنية , إذ اضطر الشيوعيون للهجرة إلى دول أوروبا الشرقية بحثا عن الملاذ الآمن وكان اغلب المهاجرين من الفنانين والأدباء ومن مختلف الاختصاصات , وفي سنة 1979 بدأت هجرة أخرى بعد تعرض أنصار الثورة الإسلامية في إيران أو الداعين للثورة على غرارها إلى المطاردة والأحكام الغيابية بالإعدامات , كما بدأت هجرة أخرى سنة 1980 بعد دخول العراق بالحرب مع إيران , وكان قوامها من الكفاءات سواء الأطباء أو المهندسين أو أساتذة الجامعات أو غيرهم خوفا من الحرب أو من التجنيد العسكري الشامل في الجيش النظامي أو قواطع الجيش الشعبي , واغلبهم من الكفاءات التي أنفقت عليها الدولة الكثير من الأموال للدراسة في الخارج .

وبعد احتلال العراق للكويت وفرض الحصار الشامل سنة 1990 بدأت هجرة أخرى شملت كل من يخشى تكرار مأساة الحروب أو خوفا من نتائجها , أعقبتها هجرة لاحقة سنة 1991 بعد أن بدأت التهديدات الدولية بشن حرب شاملة على العراق وهي هجرة استمرت لكل من امتلك الوسيلة للخروج من العراق , وتكرر الحال سنة 2003 بعد أن خضع العراق للاحتلال الأمريكي , وفي سنة 2006 بدأت هجرة أخرى بعد أن بدأت ما سميت الحرب الطائفية وحركات التهديد والقتل والتهجير وكانت من اكبر الهجرات حيث بلغ حجمها أكثر من أربعة ملايين من السكان , وتوزعت اتجاهاتها حسب القدرات المالية للمهاجرين فالفقراء هاجروا إلى سوريا وإيران ومن أفضل منهم حالا توجهوا إلى لبنان والأردن والإمارات ومصر وغيرهم توجه إلى أمريكا وأوروبا .

وخلال تلك الهجرات كان هناك ما يبررها والبعض الآخر هو مجرد تهرب , والقاسم المشترك بينها هو إن الفقراء سرعان ما يعودون بعد نفاذ مدخراتهم والآخرون يبقون أما لعدم إمكانية العودة لما يترتب عليها من تبعات قانونية أو لان لهم حاضنات في الخارج ترعاهم أو لأنهم قد رتبوا أحوالهم في الدول التي هاجروا لها عندما وجدوا فرص للعمل أو أية مصادر أخرى للدخل والمعيشة , ومن يستطيع العودة بأمان ودون أية مخاطرة يقوم بالمقارنة بين وضعه في الخارج ووضعه عندما يعود , فعندما يشعر برفاهية البقاء يبقى في هجرته منتظرا الرجوع بأعلى الامتيازات وعودتهم بهذا المعنى هي لحصاد الامتيازات فحسب وليس للولاء الوطني وهؤلاء ينطبق عليهم وصف الكفاءات الزائفة لأنهم يستغلونها لتحقيق مآربهم على حساب الآخرين , ولا ينكران المهجر قد احتوى على العديد من الحالات الإنسانية التي تحتاج إلى وقفات في الوفاء.

ورغم إن الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في العراق للسنوات 1978- 2014 تختلف من حيث الفلسفة السياسية , إلا إنها جميعا كانت متعاطفة مع المهاجرين, وفي بداية عهدنا الحاضر تم تأسيس وزارة الهجرة والمهجرين ومن واجباتها رعاية من غادر العراق , وهي وزارة سامية في أهدافها الإنسانية والوطنية عندما تهتم بمن هاجر تحت وطأة الخطر ومقارعة الأنظمة الفاشية أو لحماية النفس فعلا دون أن يكون ذلك على حساب الواجب الوطني , ولكنها سوف تفقد بعض من معانيها عندما تكون بخدمة الخارجين بطرا وبحثا عن الامتيازات والثراء وترك الوطن بفراغ من خدمات الكفاءات , فهل يحق للطبيب أن يهاجر ويترك مرضاه بدون علاج وهل من الصحيح أن يهرب الأستاذ الجامعي من أول ( طكة ) ويترك طلابه بدون أستاذ وهل من الصحيح أن يهاجر الفلاح ويترك أرضه بورا إذا كان الخطر لم يحدق بهم بالفعل ؟ .

وهل إن الذين تركوا جبهات الشرف وتركوها بأسلحتها للمسلحين بأي مسمى ليهتكوا أعراض الناس ويسرقوا أموالهم وغادروا إلى خارج العراق بعد أن ارتدوا ملابسهم المدنية التي أهانوا بها شرف العسكرية سيعودون يوما ليكونوا في عداد المناضلين ؟ ويعاملون أفضل ممن سجلوا مواقف العز ومن بعدها سيتمتعون بأحسن الامتيازات بعد شمولهم بالعفو ؟ , ونبشركم بان مثل هؤلاء سوف لا يعودون إلا بعد أن يعود من ناداهم للهرب لاستصدار قرارات لصالحهم , وأما من ضحى وأدى الواجب وذرفت أمهاتهم الدموع على فراقهم سيقولون لهم ما فعلتم إلا الواجب لان أغلى الامتيازات غالبا ما تذهب للنفر الذي يتواجد خارج العراق سفاهة , لأن من شجع على ذلك قد أرسى ثقافة الهروب عندما لم يميز بين العفو عند المقدرة والحساب عن الأخطاء , وهذه الثقافة يجب أن نضع لها الحدود والتطبيقات الصحيحة لكي لا تخرج عن إطارها الصحيح .

وفي هذه الأيام , يمر بلدنا بمحنة اسمها نكون أو لا نكون , فالهدف هو الوطن أرضا وشعبا وثروات والخطأ غير مسموح به , ورغم ذلك تمارس أبشع الأخطاء فلا قرار مركزي بإيقاف الإجازات ولا رقابة على المطارات والمنافذ الحدودية , فالمغادرون يزداد عددهم يوما بعد يوم وربما سيبني إقليم كردستان طابق ثاني لاستيعاب المغادرين وربما تحتاج لذلك تركيا ولبنان والأردن وإيران , ولم نجد من يسال الخارج هل أنت موظف وهل لديك إجازة خارج العراق , كما إن النقابات والجمعيات العلمية غائبة عن ممارسة أدوارها في التوعية الوطنية , وفي ظل هذا الغياب الرسمي وغير الرسمي ستقع الضربة برؤوس ( ولد الخايبة ) كما هو الحال في كل مرة ليعود المهاجرون عندما تستقر الأمور لحصد الامتيازات تحت عنوان المحافظة على الكفاءات الوطنية التي تنفع في السراء دون الضراء , وما هي في حقيقة محتواها إلا كفاءات زائفة بحق لأن الكفاءة الحقيقية هي من تساند الوطن في كل الظروف ورغم كل التضحيات .