سعت جميع الديانات السماوية والوضعية على حد سواء الى ايجاد ارضية مشتركة ورمزا ماديا واضح المعالم والدلالات ليلتف حوله اتباعها ، ويعمل هذا الرمزعلى بلورة مضمون فكري موحد يشكل جزء مهم من الخطوط العريضة لهذه الاديان ، فالبحث عن الشاخص او الرمز كان غاية الانسان منذ وجد على هذه الارض وادرك ان هناك قوى غيبية عظيمة تسير اقداره فيها ، وهي اقوى واكبر من ادراكها او احتوائها ..لذلك نجد هذا الرمز المادي حاضرا في اولى الديانات البدائية والفطرية التي اوجدها الانسان لنفسه قبل نشوء الاديان بشكلها المعروف حاليا ،فعبد الشمس والقمر والبرق وغيرها من الظواهر الكونية التي تحكمت باقداره او اعتقد هو انها هي المسؤولة عن هذه الاقدار (رزقه ، حياته ، موته ،مرضه ،خوفه ،امنه ،… )..واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار المثيولوجية الدينية القائلة بأن التوحيد كان هو الاساس والاصل الذي انطلق منه الانسان وبدء به مسيرة حياته الشاقة على هذه الارض ، بعد ان اخرج ابونا ادم (ع) عنوة من الجنة ، لنسيانه الامر الالهي بان لايقرب الشجرة ..بقوله تعالى في سورة البقرة (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )..والقصد هنا ادم وزوجه.. وبالرغم الجدلية التاريخية المصاحبة لهذه القصة والتي ذكرت في التوراة كما ذكرت في القران الكريم ..واختلاف الرؤى والاتجاهات في تفسير الايات القرانية التي وردت فيها هذه القصة تبعا لاختلاف المذاهب الاسلامية والمدارس الفكرية والعقائدية التي خضع لها التفسير القراني على وجه الخصوص ، والذي تقاطعت تفسيراته حول ماهية هذه الجنة ومكانها وهل ان ادم (ع) عصى ربه ام نسي ما اوحي اليه .. وبغض النظر عن طبيعة الاجابات التي تمتلئ بها كتب التاريخ والتراث الاسلامي ..الا ان الانسان وجد في هذه الدنيا موحدا لاشك في هذا ، بقوله تعالى في سورة البقرة مشيرا الى ادم (ع) وزوجه ..(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين )..لذلك يذكر التاريخ ان اول من وضع رمزا ماديا لديانة التوحيد على هذه الارض هو ادم (ع)..ببنائه للكعبة المشرفة لتكون جزء من حضور الرحمة الالهية عليها ، ويذكر بعض المحققين ان الملائكة هم اول من بنى بيت الله الحرام كما يذكر الكاتب محمد بن يوسف الصالحي في كتابه سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد .. ويذكر القرطبي في تفسيره ان روي عن الامام جعفرالصادق (ع) قال : سئل أبي ( ويقصد الامام الباقر (ع) ..وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال : إن الله عز وجل لما قال : إني جاعل في الأرض خليفة قالت الملائكة .. أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فغضب عليهم ، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم ، وقال لهم : ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي ، فأرضى عنه كما رضيت عنكم ، فبنوا هذا البيت )..لكن الوجود الحقيقي لهذا الحضور الالهي كان في زمن سيدنا ابراهيم (ع)..كما جاء في سورة البقرة (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )..وقد اسهب القران الكريم في ذكر قصة نبي الله ابراهيم (ع) ،ومجيئه مع زوجته هاجر وابنه الرضيع اسماعيل (ع) ،الى ارض الحجاز وبالتحديد مكة المكرمة والتي اشار اليها القران الكريم بقوله تعالى في سورة ال عمران (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )..والتي استمدت اغلب طقوس الحج عند المسلمين من حيثيات وتفاصيل هذه القصة ، كسعي هاجر بين الصفا والمروة طلبا للماء لابنها الرضيع كما جاء في كتاب “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” للكاتب جواد علي..الى صعود عرفة الذي يذكر ان جبريل (ع) طاف بابراهيم (ع) يريه مشاهد الحج من جبل عرفة فكان يسئله هل عرفت فيجيب نبي الله ابراهيم نعم عرفت فجائت هذه التسمية ..والنحر الذي هو رمز لفداء اسماعيل (ع) من الذبح بكبش عظيم كما جاء في سورة الصافات ..(وفديناه بذبح عظيم )..وذكر الطبري في تفسيره عن الشعبيّ، عن ابن عباس أنه قال في الذي فداه الله بذبح عظيم قال: هو إسماعيل ، الى رمي الجمرات والتي هي رمز لرجم الشيطان فقد روى هذه القصة الإمام أحمد في مسنده مرة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرة موقوفة على ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظ المرفوع منها: أن جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ ، ثم أتى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم أتى الجمرى القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ…بقيت الكعبة المشرفة على مر التاريخ تمثل ملتقى لعرب الجزيرة العربية في الجاهلية ومصدرا لعبادتهم وتجارتهم ، ورمزا لوحدة المسلمين بعد ظهور الاسلام في ربوعها ، وقد مر هذا الرمز العظيم بفترات تعرض من خلالها للكثير من التحديات والمنعطفات الخطيرة ، فبعد ان جعلها نبي الله ابراهيم (ع) منارا للتوحيد ودعى الناس للحج اليها بقوله تعالى في سورة الحج ..(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )..جاء بعد عدة قرون لم يحدد التاريخ الاسلامي عددها عمرو بن لحي زعيم قبيلة خزاعة والذي كان ايضا زعيما لمكة انذاك ليدخل الاصنام اليها ومن ثم لتنتشر في الجزيرة العربية بأكملها.. كما يروي ابن هشام في سيرته (حين قدم عمرو بن لحي بلاد الشام فرآهم يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، استحسن ذلك وظنه حقاً، وكانت الشام آنذاك محل الرسل والكتب السماوية، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه ؟ فأعطوه صنماً فجلبه معه)..ومن هذه الحادثة بدأت عقيدة الشرك بالله في ارض العرب واصبحت الكعبة المشرفة ملاذا لعشرات الاصنام والاوثان التي بات العرب يتقربون بها زلفة الى الله ، بعدما انحسرت ديانة الحنفية والتوحيد التي جاء بها ابراهيم (ع)..وفي العام الذي ولد فيه النبي محمد (ص)..جاء ابرهة الحبشي بجيش كبير قاصدا هدم الكعبة ليصرف الناس عن الحج اليها بعدما بنى له كنيسة عظيمة في اليمن لتكون بديلا عليها ، لاسباب اقتصادية ، وكان لحضور المعجزة الالهية الدور الفاعل في القضاء على هذا التحدي الخطير بأبادة هذا الجيش كما ورد في سورة الفيل ..بعدما عجزت قريش عن مقارعته بقول سيدها عبد المطلب مخاطبا ابرهة ..(الابل لي وللبيت رب يحميه )..وفي رواية ابن كثير في تفسيره الجزء الثامن ..(لما سئل عبد المطلب ابرهه ان يرد عليه ماله ، فقال : سألتني مالك ولم تسألني عن الرجوع عن قصد البيت مع أنه شرفكم فقال : إن للبيت ربا يحميه)..وكان لهذا المعجزة الربانية ان تكون نقطة الشروع في ظهور الاسلام في هذه البقعة الطاهرة ، لتصبح مهدا للرسالة المحمدية المباركة ومنطلقا لدين الاسلام الحنيف الذي اعاد للحنفية حضورها من جديد ، وهنا تكمن الفلسفة التاريخية من الوجود الزماني والمكاني للمعجزة ، فقد تعرضت الكعبة لعدة تحديات في كنف الاسلام مثل السيول التي هدمتها ، وضربها بالمنجنيق على يد يزيد بن معاوية وقائده الحصين ابن النمير ومن ثم هدمها الحجاج واحرقها في حصاره لعبد الله بن الزبير ..لكن المعجزة الالهية لم تحضر هنا ، والسبب ان الله حمى الكعبة من ابرهة وجيشه لانه اراد لها ان تكون رمزا ومهدا لدين جديد اعدت له السماء نبيه ورجاله ودوره التاريخي والانساني على هذه الارض ، وان زوالها يعني ذهاب الركيزة الاساس لهذا الدين الجديد ورغبة من السماء بديمومة بقائها لتصبح الكعبة المشرفة بيت لله ورمزا للاسلام والمسلمين وقبلة لهم يتوجهون اليها في صلواتهم على مر الدهور ، يقصدوها طالبين التوبة والمغفرة من رب عظيم الذي قال في سورة الزمر ..(قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) .. ويصبح الحج اليها ركنا من اركان هذا الدين الحنيف ..بملابس الاحرام ونداء لبيك اللهم لبيك ، تذوب المسميات وتتلاشى الالقاب والالوان والاجناس ويتوحد الجميع تحت مظلة الاسلام وفي حرم السلام الذي قال فيه الله تعالى في سورة ال عمران ( ومن دخله كان امنا ).