18 ديسمبر، 2024 6:19 م

الكساندر بوشكين بين الأمس واليوم !

الكساندر بوشكين بين الأمس واليوم !

من يريد أن يدخل عتبة روسيا القيصرية ، تاريخها الموغل في القدم من يوم حكم القياصرة المتعاقب عليها ونظام القنانة السائد آنذاك ، ومهاجمة نابليون وجيشه لها عام 1812وبحكم التاريخ والحروب ، إنها حرباً وطنية . عندما هاجم نابليون موسكو ، كان أهلها قد دمروها عن بكرة أبيها ، تحوطاً ضد أي فرصة قد يتنفس من خلالها المحتل ، مما تحمل هو وجيشه عبئاً كبيراً من الجوع والامراض والاوبئة ، فتكبد خسائر بالارواح بحدود ٢٥ الف شخص ، مما تركها مذعوراً مهزوماً والى الابد . وزحف الجيش الروسي الى أوربا وسقطت العاصمة باريس والقي القبض على نابليون ونفيه . عرفت روسيا تاريخياً من نافذة أدباؤها الروس .

سأل نابليون في منفاه عن سر هزيمته قال بألم : ”الاستهزاء بقوة عدوي روسيا القيصرية ”.

وقد أثرت تلك الاحداث التاريخية على الشاعر بوشكين في رسم ملامح شخصيته وتحديد مواقفه السياسية كشاعر ومواطن وأنسان ، هنا تنبأ مشواره الشعري والنثري ” السياسي ”. قائلاً …

سيطوف ذكرتي في أرجاء روسيا العظيمة .

ويلهج بأسمي كل مخلوق قد بلغته .

ولد بوشكين عام ١٧٩٩ في موسكو في أسرة من النبلاء تعيش حياة ترف وأريحية ، كان والده شاعر بارز فساهم في تكوينه الادبي والفكري . ترجع جذور الشاعر بوشكين الى أصول أفريقية ، جده من أمه من الضباط المقربيين الى القيصر بطرس الاول من هنا ورث الملامح الافريقية في هيئته حيث تميز بشعر أجعد وشفتين غليظتين ، أمه حفيدة إبرام غنيبال الامير الحبشي الذي أختطفه الاتراك وأرسلوه هدية الى القيصر الروسي بطرس الاول . كان بوشكين يفخر بجد أمه ، الذي كان قائداً مشهوراً في عهد البطرس ، وقد وصفه في روايته التاريخية ”زنجي بطرس الاكبر ” . يعتبر بوشكين شاعر روسيا العظيم وأمير شعراء روسيا وروائي وشاعر وكاتب مسرحي . قال في خضم مواقفه بالشعر والكلمة والوطنية معتزاً بأرثه .

وطويلا سيظل قومي يحبونني

فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرة

وغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي

وناديت الرحمة على المقهورين .

كتب ” نيقولاي غوغول ”الكاتب الروسي وصديق بوشكين قائلاً : عندما تذكر أسم بوشكين تتحلى الطبيعة الروسية بأبهى صورها ، إنه النفس الروسية . أتسمت أشعاره السياسية برفض الاستبداد والتسلط حاملاً شعلته المضيئة في دروب الناس المقهورة للتطلع والحرية ، ولم يخفي أو يهادن السلطة القيصرية في أشعاره ونثره ، مما دعا القيصر شخصيا أن يشرف على كتاباته قبل نشرها ويحذف ما يطيب له ، ولم يهدأ عقل القيصر الا أن يطرده من وظيفته وينفيه الى جنوب روسيا بسبب أشعاره الثورية ، وقد أتهمه بالخيانة الوطنية ، لكن مواقفه أزدادت عناداً وهو في منفاه من خلال كتاباته بالتحريض على حكم القياصرة . فأجبر السلطات الى أعادته الى موسكو وقربه القيصر منه ليجعله شاعر البلاط المتمرد داخل البلاط القيصري .

بوشكين .. من رواد االمدرسة الواقعية في الادب الروسي جسد بأعماله الادبية والشعرية كل طبقات المجتمع الروسي ، فمسرحيته التاريخية التراجيدية ” بوريس جودونوف ” نقل من خلالها العلاقة بين الشعب والسلطة ودورهما في بناء المجتمع ، وأن السلطة لم تكون مهيأة ، إذا لم تعتمد على الرأي العام الواعي .

أما رواية ” يفغيني أونيغين ” فتعتبر أول رواية شعرية واقعية في تاريخ الادب الروسي ، وقد عبر بوشكين عبر كتاباته أنتقاده الحاد الى الثقافة الغربية والتي تغوص بمستنقع الجشع والاستبداد ، وقد صور حياة المجتمع الغربي على أساس تجربة أمريكيا في ذلك الوقت . ” أذهلتني رؤية الديمقراطية بوقاحتها البشعة وتحاملها الساخر وطغيانها الذي لايطاق ، ووقف ضد إستعباد الزنوج في ظل الحرية وأنتشار الثقافة والضمير ” .

وفي موقف آخر يذكر له هاجم سطوة الدولة العثمانية لطغيانها في التعدي على سيادة الشعوب بقصيدة سميت ” أسطنبول ”.

ولم يغفل في نتاجاته الابداعية ومواقفه الانسانية سيرة النبي محمد في قصائده والاشاره الى مواقفه وعبقريته في الدفاع عن رسالته المحمدية .

في عام ١٨٣٧ توفى بوشكين مقتولا عن عمر يناهز ٣٨ عاماً ، وذلك في مبارزة سخيفة إستجابة لعقلية المجتمع آنذاك  ، كما كان هو سائد مع أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو ، أغرم بزوجته وحاول مغازلتها وشيع حول علاقة زوجته بالفرنسي أم لاربعة أطفال هي ناتالي . وأعتبر بوشكين هذا الموقف أهانه له ولموقعه وأنتقاماً لشرفه فتحداه وطلب منه المبارزة ، وقد تمت المبارزة بالمسدسات لا بالسيوف ، وتمكن الفرنسي بأصابته ومات بعد أيام معدودة ، وراح بعض النقاد في تحليلاتهم ، أن تلك المبارزة كانت من تخطيط بلاط القيصر الذي راح يحيك المؤامرات ضد الشاعر بوشكين للإنتقام من مواقفه ضده بعد أن عجز البلاط من أستمالة موقفه لوقعها النفسي على أهالي روسيا بما تحمله من قيم وطنية ومعاني ثورية وتحريض ضد سلطة القيصر .

بعد أن شاع خبر موته عم الاستياء والاستنكار والهجوم على القيصر وبلاطه . فهزت روسيا من أقصاها الى أقصاها قصيدة الشاعر ميخائيل ليرمنتوف بعنوان موت شاعر .

سقط الشاعر عبدأ للشرف

سقط وكان مفتريء عليه

بافتراءات خبيثة .

ودفع الشاعر ليرمنتوف ثمن موقفه وحجم تأثير قصيدته في أنحاء روسيا والعالم ، والذي عرف من خلالها كشاعر ومناضل ، فوزعت كمنشور حزبي بين الناس ضد سلطة البلاط القيصري ، مما أغضب السلطات وقررت إعتقاله ونفيه الى القوقاز وأجريت تحقيقاً مطولاً معه حول قصيدته وسمي شاعر القوقاز ويعتبر أهم شاعر بعد بوشكين . فقتل على أثر ذلك بعمر ٢٧ عاماً وله رواية واحدة ” بطل من هذا الزمان ” .

بوشكين والقيصر

يحاول القوميون الأوكران في حربهم ضد الثقافة الروسية هذه الأيام ، تصوير أمير الشعراء الروس الكسندر بوشكين شاعراً يحمل الفكر الإمبراطوري ومؤيداً للنظام القيصري ، في حين ان القيصر كان يخشى ان يثير نشر قصائد الشاعر غضب الجماهير ، ولهذا نصب نفسه رقيبا على كل ما يود بوشكين نشره من قصائد وأعمال أدبية آخرى .

في ٢٦ يناير عام ١٨٣٧ ، عشية المبارزة المميتة . كتب بوشكين رسالة الى الكونت كارل تول يقول فيها : ” العبقري يكتشف الحقيقة في لمحة واحدة والحقيقة أكبر من القيصر ، ولهذا السبب لا يمكن للديكتاتوريين ان يسامحوا الشعراء على تفوقهم الأخلاقي ، وادراكهم الثمين لما هو صائب . ان الكل مهتم بالتحقق من نفسه من خلال التجربة ، وافراد السلطة فرحون بخرافة معصوميتهم ، وهم بكل الوسائل يبتعدون عن الحقيقة . السياسة بدمها الثقيل لا تقول لي شيئاً ، وانا لا أحب الذين لا يهتمون بالحقيقة”. تلك بدعة المبارزة كانت سائدة في تقاليد وأعراف المجتمع الروسي ، مما أودت بحياة العديد من أدباء ومشاهير روسيا ، ولم تكن بعيده من دوافعها السياسية .

نبوءة فيدور دوستويفسكي .

رغم أن الأدب الروسي الكلاسيكي زاخر بأسماء عدد كبير من الأدباء العباقرة ، من ذوي الشهرة المدوية ، إلا أن الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين – مؤسس اللغة الأدبية الروسية – هو الذي يحتل أسمى مكانة في قلوب الروس جميعا. وفي الوقت الذي يختلف القرّاء الروس حول مدى إعجابهم بأعمال تولستوي أو دوستويفسكي ، إلا أنهم جميعا يعشقون شعر بوشكين و أعماله السردية أكثر من أي أديب آخر . 

أبدى تولستوي في رسالة إلى صديق مشترك بينه وبين دوستويفسكي إعجابه الشديد بإحدى روايات دوستويفسكي حتى أكثر من أعمال بوشكين ، وطلب إبلاع ذلك إلى دوستويفسكي .وعندما سمع دوستويفسكي هذا الكلام من الصديق المشترك لم يفرح ، بل أصيب بصدمة ، لأن تولستوي وضعه فوق بوشكين . قال دوستويفسكي:”  أن لا أحد يعلو على بوشكين في الأدب الروسي “. وخطاب دوستويفسكي الشهير في حفل إزاحة الستار عن تمثال بوشكين في وسط موسكو في أوائل ١٨٨٠ معروف ، حيث هز هذا الخطاب المؤثر مشاعرالجماهير الروسية .

ثمة مقولة شهيرة لدوستويفسكي تتردد على مر الأجيال على ألسنة الروس جميعاً:

” بوشكين هو كل شيء لدينا” . وقد تنبأ بوشكين نفسه قبيل وفاته بمجده الأدبي قائلاً ” . سيتردد إسمي في جميع أنحاء روسيا العظمى ، وفي لغات جميع شعوبها”

يعتبر الشاعر بوشكين من أهم أعمدة الأدب الروسي الكلاسيكي ، وقد شهدت حياته القصيرة قصص ومغامرات حب جريئة دفع حياته ثمناً لها ، وقد تميزت كتاباته بالنفس العميق في مكونات النفس البشرية وداخل الكيان الاجتماعي ، ويعتبر رمز ثقافي وأدبي كبير لبلده روسيا وله الفضل الكبير في تطوير لغة الأدب والرواية الروسية ضمن أطر المفاهيم الحديثة ، وتعتبر روايته ” يفغيني أونيغين ” تحولا كبيراً في العمل الروائي الروسي بما حملته من مضامين أجتماعية في اللغة والادب والأسلوب والمضمون . وتاريخ الأدب الروسي بدأ بالعمالقة ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف . ويعتبر بوشكين واضع الاساسيات اللغة الروسية وأدبها في الشكل والمضمون . وكان بوشكين من المهتمين بأدب الشرق وفي نهاية القرن الثامن عشر ، عندما ترجمت حكاية ” ألف ليلة وليلة ” . أطلع بوشكن عليها وتركت أثرها على نتاجاته المستقبلية . فكتب ” روسلان ولودميلا ” . ” وليال مصرية ” نتاج تأثره بهذه الروائع وبلغة القرآن وكانت هذه واضحة في أشعاره وقصائده . 

””” من كتاب سيرى النور لاحقاً ” مأساة الأدباء الروس بين الحقبتين القيصرية والشيوعية