ليس لأي من العراقيين حق الاعتراض على رغبة الكرد العراقيين في الانفصال، ولكن فقط إذا كانت هذه هي رغبة الأغلبية منهم، وفي استفتاء حقيقي وشفاف ونزيه.وعلى هذا الأساس يصح أن نسأل السيد مسرور بارزاني، (ابن مسعود البرزاني) رئيس المخابرات والأمن في إقليم كردستان العراق، عن شرعية إعلانه “أن الأكراد اعتبارا من الجمعة السادس من مايو/ أيار 2016 ليسوا مواطنين عراقيين”، في مقابلة مع صحيفة مع (واشنطن بوست).
يقول السيد البارزاني “من الآن وصاعداً نحن لسنا مواطنين عراقيين ولا توجد اية روابط ثقة بيننا وبين بغداد”، مبيناً ان “الحل الوحيد لما يجري هو الانفصال بالنسبة لنا”، لافتا إلى أن “التعايش الاجباري في العراق بلا فائدة، لكونه بلداً قد فشل في كل شيء”.
أليست قيادة السلطة الكردية أول وأهم معاول الهدم التي جعلت الدولة العراقية تغرق في فشلها الذريع، ليس اليوم فقط، ولا من أول أيام الغزو الأمريكي والصحبة الإيرانية (المباركة)، بل من أول تأسيس الدولة العراقية الحديثة التي لم تفلح، ولم تنجح كل جهودها المتواصلة في تأصيل الهوية الوطنية العراقية في قلوب القادة الكرد، ولم تستطع وقفهم عن خداع الشعب الكردي، وتخديره بالشعارات القومية المتطرفة التي لم تجلب له ولا لشقيقه الشعب العراقي سوى الآلام والأحزان وخراب البيوت؟
ويعرف الجميع تاريخ المواطنة العراقية الحقيقية لحزب السيد البرزاني وحزب غريمه السيد جلال الطالباني.
وهنا لن نضطر إلى الغوص بعيدا في ذلك التاريخ الذي تعمد بدم الجنود والضباط العراقيين من أيام الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أسبغ على الملا مصطفى وأركان حزبه ما لم يكن متوقعا من التكريم والتبجيل حين أعاده من منفاه الروسي الطويل.
ثم لا نفتح صفحات ذلك التاريخ في أعقاب انقلاب البعثيين في العام 1963 ونذكره بأيام السمن والعسل التي شهدها تحالف البرزاني مع البعثيين لإسقاط عبد الكريم قاسم، والذي لم تكن للمواطنة العراقية النقية ومصالح الوطن والشعب العراقييْن أي نصيب في لا في ذلك التحالف (المصلحي) ولا في الانقلاب عليه وإشعال الحرب على البعث وحلفائه الضباط القوميين والتي استمرت واشتد وقعها حتى رحيل عبد السلام عارف، ثم أخيه الرئيس عبد الرحمن.
ومرة عاد البعثيون إلى السلطة في العام 1968 وتكرر التفاهم والتلاحم بين القادة الكبار في حزب السيد البرزاني وحزب غريمه جلال الطالباني، وازدهرت القبلات وسحنت الأحضان المتبادلة بينهما وبين صدام حسين، إلى أن اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية واصطف القائدان الكرديان، كلاهما، بكل حماس واندفاع ضد الحليف الذي لم يستطع أن يهب السيد مسعود والسيد الطالباني ما كانا يطلبانه. وقد جاء الزمن الأمريكي الإيراني ليكشف حقيقة ذلك المطلوب.
وهنا ينبغي القول إن كثيرين من العراقيين أصبحوا اليوم يغفرون لصدام حسين استخدامه القبضة الحديدية الساحقة ضد أحزاب المعارضة العراقية السابقة (الإسلام السياسي الإيراني والقيادة الكردستانية) لأنها جندت نفسها ظهيرا لجيوش دولة أجنبية كان في حرب معها. (مهما تكن عدالة تلك الحرب وأسبابها). لم يقاتلوا الإيرانيين فقط بل أقدموا على احتلال أراضٍ ومدن وقرى من وطنهم لحساب تلك الدولة المعادية، وجاهروا بذلك وعدوه نضالا مشروعا ضد الديكتاتورية، ومن أجل تحرير الوطن من شرورها.
ولكن السيد الرئيس مسعود البرزاني، في أوج نضاله ضد الديكتاتور، لم يجد غضاضة في الاستنجاد بالـ (الديكتاتور) نفسه ضد مُواطنه جلال الطالباني المنشق عن حزب والده الملا مصطفى حين أوشك، بإيعاز وبدعمٍ من حليفه
النظام الإيراني، أن يطبق على أربيل، وأن يرسل غريمه البرزاني إلى القبر، أو إلى المنافي التي لا ترحم.
تُرى هل كان تحالف المعارضين العراقيين مع إيران وأمريكا وإسرائيل هو الشرارة التي أشعلت في نفس صدام حسين ذلك الحقد الحازم، والعنف المفرط ضد معارضيه في الخارج، وضد أشياعهم في الداخل؟
بعبارة أخرى. هل كان اصطفاف الكرد وأحزاب إيران العراقية مع النظام الإيراني وأمريكا وإسرائيل هو السبب الذي جعل منه ديكتاتورا دمويا، لمواجهة ذلك الاصطفاف، أم إنه كان ديكتاتورا بالولادة غلبه طبعه المشاكس فكان الباديء بظلم معارضيه، الأمر الذي اضطرهم إلى الارتماء بأحضان إيران وحافظ أسد ومن بعده بشار وأمريكا وإسرائيل؟
ويبرر معارضوه قبولهم التموُّل والتعاون والتنسيق مع القوى الأجنبية ضد وطنهم بالقول إن عنفه أفقد الشعب العراقي حريته وكرامته وأمنه واستقلاله، صار لزاما عليهم، مدفوعين بوطنيتهم وإخلاصهم لشعبهم العراقي، أن يعارضوه، من أجل إسقاطه وتعويض الشعب العراقي عن سنوات الظلم الصدامي بإقامة النظام الديمقراطي التعددي، ولتحقيق العدالة والديمقراطية والرفاه لجميع العراقيين.
ثم سقط نظام السجون والمعتقلات والمنافي والمقابر الجماعية، وعاد رفاقنا المعارضون من مقاهي طهران ودمشق وعمان وواشنطن ولندن ليصبح العراق مضرب أمثال الكرة الأرضية كلها في الحرية والديمقراطية والنزاهة والوطنية وإنكار الذات ودفن التعصب الطائفي والقومي والديني.
لقد وعدوا ووفوا بما كانوا يعدون به طيلة نضالهم (الوطني) مع مخابرات الولي الفقيه وحافظ أسد وبشار، وبإشراف السفير الأمريكي لدى المعارضة العراقية السابقة ريتشارد دوني، ومن بعده السفير الأمريكي زلماي خليل زادة.
لقد زل لسان أحد قادة الجبهة الكردستانية، مرة، على شاشة إحدى الفضائيات العربية، فقال ما يلي، مباهيا ومفاخرا:
(لولا الثورة الكردية التي وجدت الدعم والمساندة من الشاه الإيراني لما احتاج صدام حسين إلى توقيع اتفاقه مع الشاه في الجزائر عام 1975. ولولا تمزيقه تلك الاتفاقية لما اندلعت حربه مع إيران الخميني. ولولا الحرب الإيرانية العراقية لما اضطر لغزو الكويت. ولولا غزو الكويت لما سقط النظام).
بعبارة أوضح. إنه يعترف بأن كل ما أصاب الوطن العراقي وشعبه من مصائب وكوارث وتمزق وتشرذم من صنع الثورة الكردية التي هي، بكل أمانة وإنصاف، ليست ثورة بل هي تمردٌ علني واضح قام به قادة الحزبين الكرديين، الوطني الكردستاني والاتحاد الوطني، بحثا عن وجاهة وزعامة ومصالح حزبية وقبلية وشخصية، مع سبق الإصرار والترصد، مستهينين بالهوية الوطنية التي يتبرأ منها اليوم السيد مسرور البرزاني.
شيء آخر. لقد تحالف العلمانيون الديمقراطيون الكرد، (كما يحلو لهم أن يسموا أحزابهم)، مع أكثر الأحزاب الدينية العراقية رجعية وطائفية، وهم يعلمون علم اليقين بأنها إيرانية التوليد الإرضاع والتنشئة.
وكان عليهم أن يتوقعوا انفكاك عرى ذلك التحالف، من زمن طويل، مع أول حفلة تقاسم الذبيحة. وها قد تحقق ذلك الانفصام حين انتهى زمن انبطاح حكام المنطقة الخضراء أمام مطالب الحليف الكردي التي لا تنتهي ولا تحتمل.
فإن كان السيد مسرور البرزاني يعترف بأن التفاهم مع بغداد أصبح مستحيلا، وبأن هذا يمنحه ويمنح والده الرئيس حق فك الارتباط مع بغداد المرتهنة المختطفة فما ذنب الملايين من العراقيين التي يعلم القادة الكرد قبل غيرهم بأنها ضحية تلك الأحزاب، وضحية تحالف القيادة الكردية معها على حساب المصالح الوطنية العليا للشعب العراقي، وعلى جثة الوطن الذبيح؟
بل إن تحالفهم مع حزب الدعوة والمجلس الأعلى ومليشاتهما، من أيام لجنة العمل المشترك في أوائل التسعينيات، بإشراف وإدارة مخابرات إيران والأسد وأمريكا، وعلى امتداد جميع المؤتمرات التي عقدتها المعارضة العراقية السابقة، والتي أنجبت العملية السياسية الكسيحة القائمة على المحاصصة الطائفية العنصرية، ذنبٌ آخر يضاف إلى السجل الطويل من ذنوب القيادة الكردية التي كان الشعب العراقي يأتمنها، وينتظر منها أن تقف إلى جانبه، ومع حريته وكرامته واستقلاله وأمنه، لا مع الذين قاتلوا ضد الوطن الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
فكيف لم يتوقع السيد مسرور أن يغدروا به وبحزب والده وبالشعب الكردي كله، وهو الأكثر خبرة ودراية بما جبلوا عليه من خيانة لشعبهم العراقي، ولأبناء طائفتهم ذاتها، من أول مؤتمرات المعاضة العراقية سيئة الصيت؟
وإذا كان (زعل) السيد مسرور البرزاني مع حكام المنطقة الخضراء، وهو الذي يعرف أكثر من غيره أن أمرهم ليس لهم، وأنهم مجرد عبد مأمور فالأحرى به أن (يزعل) على ولي أمرهم الذي يسوقهم بعصاه التي لا ترحم، وليس على الشعب العراقي البريء. أم هي ذريعة والسلام؟
وأخيرا. إذا انفصل الإقليم عن الوطن العراقي، ولم يعد الكرد مواطنين عراقيين، فبأية جهة سوف يحتمي من أحزابهم ومن حشدهم الشعبي المقدس؟ إلى إيران أم إلى تركيا، أم إلى إسرائيل؟ وهل سيكون الإيرانيون والترك والإسرائيليون أرحم وأكثر أخوة ومودة على الدولة الوليدة وشعبها من العراقيين الذين تحملت آلاف منهم السجون والقتل والنفي دفاعا عن حق أشقائهم الكرد في العيش الكريم وضد ظلم ذوي القربى؟
لا يعترض الشعب العراقي المختطف على رحيل الكورد عن الوطن، ولكن بشرط أن يجري حكام الإقليم استفتاءً شعبيا شفافا ونزيها لمعرفة ما إذا كان السيد مسرور البرزاني يتكلم باسم ملايين الكرد العراقيين. مع التذكير برفض
الرئيس البرزاني تسليم الرئاسة لمن يخلفه بعد انهاء حقه الدستوري فيها، ضاربا عرض الحائط بإرادة القوى السياسية والثقافية والاجتماعية الكردية التي تطالبه بالتنحي.
إذن وداعا أشقاءنا الكرد الأعزاء، ولا تقطعوا عنا لبن أربيل.