تنبع أهمية كتاب رئيس أساقفة مدينة ميلانو الأسبق كارلو ماريا مارتيني المعنون بـ”أبناء إبراهيم.. نحن والإسلام” من كون الرجل من الأعمدة التي قام عليها إكليروس كنيسة روما وذلك قبل وفاته أواسط العام 2012، فقد كان مرجعا وسلطة داخل الكنيسة، علاوة على ترشيحه في السابق لتولّي منصب الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان. الكتاب المعروض يتعلق أساسا بالمسلمين، وإن جاء معنونا بـ”أبناء إبراهيم”، وهو ما قد يوحي بتوجّه مضامينه إلى أتباع الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، غير أن حديثه يقتصر على المسلمين والمسيحيين، ما يشي بعمق مشاغل الكنيسة تجاه مسلمي الغرب ودين الإسلام في الراهن.
في مستهلّ الكتاب تطالعنا كلمة لماسيمو كاتشاري، وهو فيلسوف إيطالي معاصر ذائع الصيت، يتعرّض فيها لغياب استراتيجية للسلام بين الأديان جرّاء مناخات عدم الثقة السائدة. فكافة أشكال الحوار الرائجة، برغم ما ساهمت به من تقارب، لم تنزع لحدّ الآن الريبة الكامنة بين الأطراف المتحاورة وفق كاتشاري. حيث يبدو وقعُ الحوارات محدود الأثر، لما يعتري الخطاب من “تضخّم لفظي”، بعد تحوّل مفاهيم التعايش المشترك، وعبادة الواحد الأحد، ورابطة الأديان الإبراهيمية، والسعي من أجل السّلام، إلى عبارات خاوية أحيانا. ما يملي وفق كاتشاري ضرورة خوض نقد لما يقوم عليه الحوار، بغرض تجاوز الهنات. إذ لا يزال العنف المضمَر بين أتباع الديانات الإبراهيمية محافظا على فاعليته، وهو ما يؤرق بحقّ ضمير المؤمن الواعي بالأنساق الاعتقادية الجامعة.
وتبعا لما يرصده كاتشاري، أن ما خلّفته التشككات الحاصلة في الرأسمال العقدي والتشريعي للأديان من تصدّعات متفاوتة، كان نفعها أكثر من ضرّها، إذ صحّحت لدى الإنسان وعي علاقته بالدّين من حيث إدراك قوته واستلهامه. مع أن الأمر في الغرب خلّف حديثا عن “تراجع المقدّس”، وهو بالأحرى تزعزع للمفاهيم الخاطئة في اللاّهوت الكنسي، التي عمّقت التشكّك في التراث الإبراهيمي. من جانب آخر يتناول كاتشاري مقولة “الحرب العادلة”، وهو مفهوم مسيحي متجذّر يعود إلى آباء الكنيسة، شهد تأصيلا مع القديس أوغسطين في مؤلفه “مدينة الله”، بعد أن حوّل الحرب إلى عمل إحسان، وهو ما يملي مراجعة جريئة من الطرف المسيحي. فالحرب وفق كاتشاري لا علاقة لها بما هو طبيعي، ولا بما هو عادل، بل بما هو سياسي. منتقدا في ذلك حديث الغرب عن هويته المتمثلة في الديمقراطية، قائلا وهل ديمقراطية الغرب منفتحة على العدالة؟ ولعل البارز في كلمة كاتشاري قطعها مع التأملات الفلسفية المجرَّدة، ومتابعتها لتعاليم الكنيسة ضمن نصوصها المرجعية المعروفة بـ”نوسترا آيتات”. يتساءل كاتشاري هل بالإمكان معالجة مسألة الصراع بالنسيان، كما ورد ذلك بشأن المسلمين (ولئن كان قد وقع، في غضون الزّمن، كثير من النزاعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجْمَع يحرّض الجميع على التغاضي عن أحقاد الماضي). قائلا: لا يعني الاعتراف بالأخطاء النسيان، مقرّا ألاّ سبيل للخروج من بوتقة الصراع سوى بإرساء تربية جديدة تهدف إلى تحوير عميق في العقول، بقصد بلوغ الاعتراف الجريء.
في القسم الأول من الكتاب والمعنون بـ”نحن والإسلام” يستهلّ رئيس الأساقفة مارتيني قوله بمقطع توراتي من سفر التكوين (21: 13-20) يتضمّن حديثا عن ولديْ إبراهيم إسحاق وإسماعيل، بوصفهما ممثليْ التفرع اليهودي والإسلامي، ومعتبرا الشق الأول يشمل المسيحيين أيضا، وهي قراءة ترشح بالعرقية، فأين نضع الفلسطيني الكنعاني وأين نضع الشوام المسيحيين أو الذين مروا من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام ضمن أي شق؟ لذلك يبدو مفهوم “أبناء إبراهيم”، أو بالأحرى “ملة إبراهيم”، حاضرا في التراث الحنيفي التوحيدي، وليس في التقسيمات العرقية المتأتية من التصورات التوراتية ووريثتها المسيحية في الغرب. حيث يشرح مارتيني أن المراد بـ”نحن” لديه هو مجتمع الكنيسة، معرّجا على الدور الذي يقوم به في مدّ يد العون للمهاجر المسلم. والحال أن ثمة هاجس اختراق يهيمن على المخيال المسيحي يتلخّص في أن عمل الإحسان الكنسي الموجَّه للمسلمين يبقى اللغة الأكثر ملاءمة لإبلاغ شهادة المسيح. موردا مارتيني أن المهاجر ليس من حقّه جلب الشريعة إلى هنا، أي إلى الغرب، كون المجتمع علمانيا وفيه فصل بيّنٌ بين الدين والدولة. والواقع أن التوتر الحاصل في الغرب بين المهاجرين المسلمين وبعض القطاعات، ذات التوجه الديني المحافظ واليميني المتطرف، وهو ما يُصبغ بصبغة التهديد لنمط الحياة الغربية، ليس قائما حول جلب الشريعة كما يزعم مارتيني. فالجلي أن المسلمين في الغرب قد صار السوادُ الأعظم منهم جزءا من تلك الديار، ويتماهى معظمهم مع فلسفتها الاجتماعية وأعرافها المعيشية. وأن النداءات المطالبة بجملة من الحقوق، والتي تشكو من مظاهر التمييز أحيانا، لا ترتقي إلى المطالبة بتغيير النموذج الغربي أو تهديده، كما يُصوِّر المغالون، بل تنشد خوض إصلاحات ذات طابع اجتماعي حقوقي. كون المسألة تتلخص في حيف اجتماعي، قوامه العزل المقصود في الشغل، والاستبعاد على وجه العمد من مواقع النفوذ، والتضييق المتعمَّد على سُبُل الرزق.
يشفع مارتيني مقوله بحديث عن تطور أعداد المسلمين في الغرب وهو ما يقلق الكنيسة، رابطا ذلك بهواجس الأصولية الوافدة وما تشكّله من مخاطر، والجلي أن السياق السوسيولوجي للمهاجرين المسلمين في الغرب قد مرّ من “الإسلام في الغرب” إلى “الإسلام الغربي”، وإن بتفاوت بين البلدان الغربية، وقد كان الأجدى الحديث عن فشل بعض سياسات الهجرة لا عن استعصاء المسلمين على الاندماج.
كما يطرح مارتيني جملة من الأسئلة تتخلل كتابه قائلا: هل المسلمون جاهزون للحوار؟ وأي شكل من العلاقة ينبغي أن يسود في أوروبا بين المسيحية والإسلام؟ وكيف ينبغي أن نرى الإسلام كمسيحيين؟ وهل سيكون الإسلام في أوروبا إسلاما علمانيا تبعا للمثاقفة الجارية؟ وهل ينبغي للكنيسة أن تتخلى عن تقديم الإنجيل لأتباع الإسلام؟
ينطلق في إجابته عن تلك الأسئلة باستعراض نصوص المجمع الفاتيكاني (1962-1965) التي تعلّقت شذرات منها بالمسلمين. فقد ورد في نص “لومن جينتوم”: “… بيْد أن تدبير الخلاص يشمل أيضا أولئك الذين يؤمنون بالخالق، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرّحمن الرّحيم، الذي يدين النّاس في اليوم الآخر”. ووردت الإشارة الثانية في نص “نوسترا آيتات”: “تنظر الكنيسة بعين الإجلال إلى المسلمين أيضا الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحمن القدير الذي خلق السّماء والأرض، وكلّم النّاس… وإنهم، على كونهم لا يعترفون بيسوع إلها، يكرمونه نبيّا، ويجلّون أمّه العذراء مريم… ولئن وقع في ماضي الأزمنة كثير من النزاعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجْمَع يحرّضهم جميعا على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التّفاهم في ما بينهم، وأن يتآزروا من أجل جميع النّاس، والعدالة الاجتماعية، والقيم الرّوحية، والسّلام والحرّية”.
جلي أن الكنيسة الكاثوليكية، مع مجمع الفاتيكان الثاني، قد انطلقت في أنجَلَة العالم عبر ما يُعرف باستراتيجية “الحوار مع الأديان الأخرى”، لمّا كانت الشيوعية الخصم الأكبر، وهو ما اقتضى تجنيد رفقاء في تلك المعركة. لذلك ما عبّرَ التحول في العلاقة بالإسلام عن نُضج في فلسفة الحوار، أو يقين بوحدة التراث الإبراهيمي، وإنما جاء بدافع كسب حليف استراتيجي في معركة تخشى عواقبها، وهو ما انكشف لاحقا مع تشكّلِ مفهوم “التراث اليهودي المسيحي المشترك” الذي أبقى المسلمين ضمن “التعبيرات الثقافية والدينية” النائية. وقد كانت الكنيسة في ذلك المسعى تصنع فلسفة الحوار وتحدّد مساراتها، بعد تفريغها من مضامين الحوار الشامل واستبدالها بالحوار الاجتماعي، الذي هدف أساسا إلى إيجاد موضع قدم للكنيسة الغربية في ديار الإسلام، بعد أن خرجت آثمة مع الآلة الاستعمارية.
وفي إجابة مارتيني عن تلك الأسئلة يرِدُ إسقاط لديه لمفهوم الدولة الدينية المسيحية على الإسلام، ليغدو مسار العلمانية الذي أُكرهت عليه الكنيسة في الفصل بين الدين والدولة قدرا ينبغي أن يواجهه الإسلام، والحال أن لكلّ دين سياقه السوسيولوجي. قائلا: “ينبغي أن نعمل جاهدين حتى يقبل المسلمون بالتمييز بين الدين والسياسة”. فاستنتاج مارتيني نابع من تعال يتطلع إلى تعليم المسلمين سُبُل التمييز بين الدين والمجتمع، وبين الدين والحضارة، وبين الدين والسياسة، وهو ما يقود وفق رأيه إلى الديمقراطية العلمانية حيث التعددية الدينية مراعاة. والواقع أن هناك ضروباً شتى من العلمانية وليس ثمة نموذج أوحد، فالعلمانية الأمريكية التي تخضع إلى قانون التنافس بين الأديان وغياب المونوبول الديني لا تلتقي أصلا مع العلمانية الإيطالية التي تهيمن فيها كنيسة واحدة تحتكر الفضاء الاجتماعي.
وفي حديثه عن التبشير في أواسط المسلمين المتواجدين في الغرب يعالج المسألة ضمن معطيين:
كان المؤتمر الأسقفي الإيطالي قد أصدر ضمن توجيهاته الرعوية سنة 2000 وثيقة بعنوان: “التبشير بالإنجيل في عالم متغير”، وقد جاء في النقطة 58: “ينبغي أن نواجه محورا مستجدا بالغ الأهمية ذلك المتعلق بتنصير الأفراد الوافدين علينا عبر الهجرة. نحن مطالبون بأداء رسالتنا بين غير المسيحيين في أرضنا. مع إيلاء اهتمام إلى تقاليدهم وثقافاتهم، وينبغي أن نكون قادرين على تقديم الشهادة بالإنجيل نحوهم، وتبليغهم كلمة الرب”. هذا الأمل المنشود الذي راود الكنيسة، لا سيما في إيطاليا، لم يتطور حسبما تشتهي، فقد تشكلت شبه مناعة لدى المهاجرين المسلمين بعد احتكاكهم بواقع غربي تنبهوا إلى العديد من الهنات فيه، وقد لعب النشاط الجمعياتي المهاجر المتمحور حول المصلَّيات المتواضعة دورا بارزا في تحصين الهوية الإسلامية، ولم تمض عقود حتى تشكّلت ظاهرة مضادة تمثلت في تزايد عدد المهتدين من الكاثوليك إلى دين الإسلام، كان قد رصدها عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو أليافي في كتابه “المسلمون الجدد: المهتدون إلى الإسلام”.
من جانب آخر يتعرض مارتيني إلى مسألة الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيات، وهي في الحقيقة مسألة شائكة يصعب السيطرة عليها، الأمر الذي دعا رئاسة المؤتمر الأسقفي الإيطالي إلى إصدار وثيقة توجيه في الشأن بعنوان “الزواج بين الكاثوليك والمسلمين في إيطاليا”، سنة 2005، أعرب من خلالها عن انشغاله بقضية الزواج المختلط، وذلك بعد أن تبيّن له أن الطرف المسيحي غالبا ما يكون خاسرا في تلك الزيجة جراء تحول الشريك الكاثوليكي أو الكاثوليكية إلى الإسلام في كثير من الحالات، فضلا عن نشأة الأطفال في جو تربوي مشوب بالطابع الإسلامي ما يجعل فرص تعميدهم قليلة.
يأتي القسم الثاني من الكتاب، وهو الأقصر مقارنة بالقسم الأول، بعنوان “الإرهاب والانتقام والدفاع العادل والحرب المقدسة”، وهي إشكاليات قديمة وفق مارتيني واجهت الإنسان منذ صراع قابيل وهابيل، ثم ينتقل في معالجة المسألة من وجهة نظر مسيحية من خلال ما يرد في إنجيل لوقا 13: 1-5 “حضر بعضهم وأخبروه [المسيح] عن أهل الجليل الذين قتلهم بيلاطس فخلط دماءهم بدماء ذبائحهم. فردّ عليهم قائلا: أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خاطئين أكثر من أهل الجليل الباقين حتى لاقوا هذا المصير؟ أقول لكم: لا، ولكن إن لم تتوبوا أنتم فجميعكم كذلك تهلكون!” يحاول مارتيني أن يربط ذلك الحدث القديم زمن المسيح، بما جرى في فلسطين من “عمليات انتحارية” وما جرى أثناء الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا من قتل وترويع. حيث يأتي مقوله متداخلا ومفتقدا للوضوح عند التعرض للأطراف المتصارعة أكان ذلك بشأن الفلسطينيين والإسرائيليين أو بشأن الجهات المورَّطة والمتضررة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وإن كان يذهب إلى ضرورة إدانة الإرهاب والعنف وبالمثل إلى ضرورة إدانة الظلم والحيف، فإن حديثه عن الظلم والجور يأتي غائما ولا يحدد فيه المذنِب، مقرّا أن ثمة إجحافا في العالم يتلخص حسب ما يورد، في أن ثمانين بالمئة من سكان البسيطة يعيشون بعشرين بالمئة من ثرواته، وأن مليارا ومائتي مليون يعيشون بأقل من دولار في اليوم. داعيا إلى ضرورة تبني سُلّم قيم جديد لمواجهة الشر في العالم، يكون أساسه السِّلم والتضامن والتعايش المشترك والاحتضان والإنصات للآخر والعفو والمصالحة والحوار الأخوي. ليخلص إلى ضرورة تجريد الضمائر والقلوب من الغل والحقد كما هو شأن تجريد الأيدي من السلاح حتى لا نبقى في مواجهة دائمة مع الإرهاب.
على العموم يستلهم مارتيني موقفه كمسيحي مما يرد في حديث المسيح السابق الذكر، من حثّ الجميع على التوبة عن خطاياهم، الجلاد والضحية. وهو في الحقيقة أمرٌ يدعو للتساؤل، حيث يبدو “المسيح الإنجيلي” أمام العديد من قضايا عصره السياسية والاجتماعية سلبيا صامتا، لا يتخذ موقفا جليا من الصراع الدائر بين الحق والباطل على غرار أنبياء التوراة السابقين. وإن عبّر ذلك المسيح في مواضع أخرى عن رفضه استعمال القوة بكافة أشكالها، وهو ما يلوح جليا في إنجيل متى26: 52 “رد سيفك إلى غمده، فإن الذين يلجأون إلى السيف بالسيف يهلكون”.
في خضمّ ما يتطرّق إليه مارتيني يلوح العالم الإسلامي متّهَما بالعنف، وهو الذي يشهد أكبر كتلة من المهجَّرين واللاجئين في عالم اليوم، مع أنه ضحية على كثير من المستويات السياسية والاقتصادية. وبالمقابل تبدو الكنيسة غير قادرة على مساءلة نفسها والاعتراف بالشر المرتكب في حق المستضعَفين، ولعل ذلك ليس في حق المسلمين وحدهم بل في حق أمم كثيرة تأتي من ضمنها شعوب أمريكا اللاتينية وإفريقيا. لذلك يبقى العنصر الغائب في مقول مارتيني وهو الاعتراف الشجاع بجذور الشر. إذ صحيح أن مارتيني يحمّل الجميع المسؤولية، لكنه لا يجرؤ على توجيه اللّوم إلى ذاته المسيحية ليبقى في حديث العموميات على طريقة الوعظ الأخلاقي غير الجريء في معالجة المسائل الحساسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: أبناء إبراهيم.. نحن والإسلام
المؤلف: كارلو ماريا مارتيني.
تقديم: ماسيمو كاتشاري.
الناشر: منشورات لاسكولا (بريتشا-إيطاليا) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2015.
عدد الصفحات: 162ص.