منشور جميل في الفيس بوك للصديق الصحفي عبد الرضا الحميد قادني اليوم الى الكتابة، المنشور القصير يقول (صديقي المهنئ بالعيد الميت: رصيد قلبي المذبوح في الكرادة لا يكفي للرد على تهنئتك، فعذرا)، وكنت كغيري من الكثير من العراقيين انوي كتابة منشور للاعتذار عن تقديم او استقبال التهاني بالعيد بسبب حزن الكرادة، ولكني وجدت العشرات من اصدقائي قد سبقوني الى ذلك فاكتفيت بهم ولم اقدم التهاني، وللحق فاني في كل عيد سابق كنت انوي ان اعتذر عن تقديم التهاني الا اني كنت اعتقد ان الاصدقاء ربما لم يتفهموا موقفي انذاك، ولم يكن السبب آنذاك طبعا ماساة الكرادة كما هو اليوم، ولكن في العراق هناك دائما سبب ومدعاة للحزن، اذ ان الفرح قد غادرنا وربما كما يخيل لي دون رجعة..
الافراح والسعادة تاتي دائما مع البساطة، بساطة الحياة وسهولة العيش والتمكن من لمس كل شيء، كل ما تحتاجه وتفكر فيه بعقلانية مع امكاناتك وقدراتك تستطيع الوصول اليه، ولهذا تجد العالم المتمدن المنتظم والمنظم بالقوانين والحريات وحماية الخصوصية، يعيش السعادة والفرح كل يوم، اما نحن فقد ارتبط فرحنا وارتبطت سعادتنا بالاعياد فقط ، ثم حرمنا منها منذ زمن ليس بالقصير، اعيادنا لايتعدى مجموع ايامها ايام اسبوع، ولكن احزاننا تحتاج الى اكثر من ايام السنة للاحتفال بها لطما وبكاءا وعويلا..
الفرح والسعادة ضحكة وابتسامة وشعور بالخفة يملأ القلب، ولذلك لحظاته قصيرة جدا، اما الحزن والتعاسة فالم ومرض وبكاء وانين وتحتاج لايام طويلة حتى تتخلص منه ومن آثاره، وربما لن تتمكن من ذلك، وعيد الفطر ثلاثة ايام وعاشوراء اربعين يوما، ولادة اي امام يوم واحد ومقتله اربعين يوما، وبما اننا نتبع اثنا عشر اماما فنحن بحاجة الى اكثر من سنة للحزن على فقدانهم.. والاغبياء الدواعش لايدركون اننا لسنا بحاجة الى قنابلهم ومفخخاتهم واحزمتهم كي نحزن ونتالم ونبكي ونلطم، فنحن خلقنا اساسا ليس لادامة حزن الشيعة فقط، بل لتعويض البشرية كلها عن الحزن الذي غادرته وهي تبحث اليوم عن اسباب اخرى طبيعية والكترونية للسعادة( سعادة دجتل)..
حين كنا صغارا، نلبس ملابس العيد، تلك التي كان اباؤنا يحنون ظهورهم على مدى اشهر كي يؤمنوها لنا، لم نكن ندرك ذلك، ولم نكن ندرك ان سعادة ابائنا هي الفرحة التي يرونها على شفاهنا وبين حدقات عيوننا، وكنا سعداء حقا وآمنين وفرحين نلهو مع الريح والاصدقاء والجيران والاقرباء، وحين كبرنا ادركنا ان فرحتنا وسعادتنا ليست سوى سعادة اطفالنا، فكيف اذن هو حال الاباء والامهات اللواتي يفقدن في كل يوم عزيز لهن، ومع ذلك مازلنا ننافق ويهنيء بعضنا البعض بافراح موهومة بالعيد وتمنيات كاذبة بعام سعيد، ولم يتجرأ الا القليل منا ليكتب على صفحته: باي حال عدت ياعيد؟..
الوحيدون الذين يشعرون بالسعادة والفرح بالعيد هم امواتنا، فالعيد سواء الفطر او الاضحى ليس الا مناسبة لزيارتهم، لم تعد الامهات تهيء اطفالها للذهاب الى مراجيح العيد، ودولاب الهوا، وانما الى القبور، حيث الراحة النفسية العظمى بالعويل والبكاء، وتفريغ الهموم والسؤال الى متى هذا الاسى وهذا الضيم، والامهات لايبكين على ما مضى ، ولا على من قتل او خطف، فهن كاذبات ايضا، انهن يبكين ويلطمن على من سيقتل
او يختطف من ابنائهن لاحقا، فلسنا سوى ( مشاريع موت كئيب) اما الموت السعيد فقد نسيناه وبالاحرى هو الذي نسينا..
لم يحدث ان تجمع العراقيون على مدى تاريخهم بالملايين من اجل الفرح وها نحن نتجمع بالملايين في كل شهر للحزن واللطم، ففي كل شهر لدينا امام ولد ومن ثم جرح ومن ثم مات، وعدا ذلك فلنا في كل يوم حزام ناسف، وعبوة موقوتة، وسيارة مفخخة، لم يعرف العراقيون الفرح ولم يتعاملوا معه في الاقل طيلة ستة عقود من عمري..واعيادنا على قلتها، وعلى تفاهتها بعد ان فقدت تقاليد الفرح والسعادة، تاتينا دائما باشكالات غريبة عجيبة، جموع الملايين تنتظر غبيا ما يفتي ان غدا عيد لنبتهج، فيخالفه غبي اخر يفتي بان غدا مكملا لشهر كذا، فنختلف في ميعاد الفرح، ولكننا لم نختلف ابدا في ميعاد الحزن، حتى الهلال يتلاعب بمشاعرنا ويعلق افراحنا كما يحلو له، ولكنه ابدا لم يعلق احزاننا..
حين تفرح تبعد عنك شبح رجل الدين الملتحف بالسواد، وترى امامك كل ما هو مبهج وجميل، نساء جميلات، شواطيء وسيارات وحدائق ومدن عامرة، فتكبر احلامك، ويزداد عزمك وتجد ان الحياة خلقت لك وحدك، اما حين تحزن فليس امامك سوى اللحى القذرة النتنة وليس سوى الضعف والكآبة والخوف والتردد والشعور بالنهاية..
في حزن الكرادة، هناك شيء مختلف، لم يعد رجال الدين حاضرين هناك، كما لم يعد الخوف هو المسيطر فالمشهد تجاوز مستوى الرعب والخوف الذي يعيشه البشر، مثل هيروشيما اليابان التي حولتهم الى مبدعيين مبتكرين محبين للحياة، نهضت في الكرادة روح جديدة ابتدأها الشباب الحر بطرد رئيس الوزراء وطرد رجال الميليشيات.. فهل سينسخ الكراديون ثورة الحجارة في بغداد؟..