الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (5)

الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (5)

# مشروع الهوية الرافدينية : بين الوحي الوطني والحتمية الحضارية
وبعد هذه الرحلة الطويلة القصيرة في عالم القراءة والكتابة والتأمل ؛ قادتني امواج العصف الذهني الى الكتابة عن أعز ما يتملكني , وأحبّ ما يلامس قلبي ووجداني… ؛ ففي إحدى الليالي، تراءى لي “وحيُ العراق”، وملاك بلاد الرافدين… ؛ وهو يستنهض همتي , ويبث في جوانحي الروح الوطنية العظيمة , وينفخُ في روحي نَسَماتِ الرافدينِ , ويقلدني سيف سرجون الاكدي , ويتلو على مسامعي صفحات مشرقة من امجاد وبطولات وانجازات اقوام بلاد الرافدين ؛ ويُذكّرني بشريعةِ حمورابي (أول دستورٍ مدوّنٍ في البشرية)، ويُلقي على مَسامعي سِيَرَ الأجدادِ: من اختراع الكتابةِ في أوروكَ , الى العجلة السومرية ، إلى هندسةِ بابلَ، إلى إشراقِ بيتِ الحكمةِ … ؛ وأمرني أن أهتفَ: “هذا وطني!”، وأحييَ هويتَنا الغافيةَ، وأثورَ على واقعِنا المُنهَكِ، لأنبنيَ عراقاً يليقُ بعبقريةِ أبنائِه … ؛ وقد امرني بالجهر بحب الامة العراقية والتذكير بأمجادها , والسعي الحثيث من اجل احياء الهوية العراقية العريقة والتأصيل لها , على والنهضة بالواقع العراقي المشوه والذي لا يليق بتاريخ العراق , وتطويره بما يتناسب مع عظمة القامات الوطنية الأصيلة، ومنجزات العراق التي دوّنتها الإنسانية في سجل الحضارات .

ومن هنا، بدأت في طرح مشروع “الأمة العراقية” أو “الهوية الرافدينية”، وهو مشروع سبقني إليه نفرقليل من المفكرين والكتّاب، شرحوه ونظّروا له، وأضفوا عليه زوايا متعددة… ؛ إلا أنني – وإن اتفقت معهم في بعض المرتكزات – أختلف عنهم في جوهر المعالجة وبعض القضايا والتفاصيل … ؛ فلكلٍّ منا رؤيته واجتهاده، وكلا منا يدلي بدلوه , والعاقبة للذين أرادوا الخير لوطنهم.

و صرتُ أكتب لأجل العراق، لا العراق كخارطة مرسومة على جدار الصف، بل العراق الذي يسكنني، ويُصارع في داخلي، ويستنهض وجداني كلما حاول اليأسُ أن يلتهم روحي… ؛ أكتب من أجل العراق التاريخي الحقيقي لا الحالي المجزأ والمفكك والجريح … ؛ إذ سمعتُ أصوات الأنهار والجبال والهضاب والبراري والصحاري والاهوار وهي تنشد ماضي سرجون، وأزيز الزمن وهو يفتح أبواب آشور وبابل، وحشرجة الأجداد وهي تناشدنا ألّا نترك حضارتنا تتحول إلى خرائب للفرجة , أو أطلال تُعرض للسياح فحسب. … ؛ ومن هنا بدأت رحلتي في مشروع “الهوية العراقية”، لا كادٍّ لأفكار مبتكرة، بل كمنقّبٍ في رماد الهوية، يبحث عن شرارة بعث جديد.

فأنا أكتب اليوم ؛ لا من أجل حزب، ولا طائفة، ولا منطقة، ولا عشيرة، وإن ذُكرت فليست إلا تجليات طولية ضمن الهوية الوطنية الجامعة، لا كيانات متناحرة او منفصلة عن الهوية الام .

بل أكتب لأن العراق العظيم يستحق أن يُكتب له، لا عنه فحسب … ؛ لقد جاءني العراق هذه المرة، لا كقضية سياسية، بل كوحي وجودي… ؛ و سكنني تاريخ دجلة والفرات، وأمجاد بابل ونينوى، فبدأت أستعيد بقايا الأمة الرافدينية المنسية ، لا لأنني أنسج وهماً قوميًا جديدًا، بل لأقيم من وسط الركام مشروعًا وطنيًا جامعًا يُنقذ العراقي من تشتته، ويصالحه مع ذاته الجريحة ؛ كما ذهب الى ذلك قبلي الكاتب سليم مطر … .

لقد جاءني العراق لا في صورة خريطة محددة , أو وطنًا جغرافيًا ، بل جاءني بوصفه وحيًا، بوصفه سرجونًا يتوشح سيفه، وقلماً خطّ على مسلّة حمورابي وصاياً للبشر، وذكرى لن تنطفئ… ؛ سمعته يهمس في داخلي: “اكتب عني … ؛ عن أبنائي الذين ضلوا الطريق… ؛ عن اسمي الذي يذبل في أفواه الغرباء والدخلاء والاجانب والاعداء … ؛ عن كرامتي المدفونة تحت ركام الطائفية والتخلف والانقسام والتهجين والتدجين والتجهيل والتشويه والتغييب … ؛ جاءني كنداءٍ داخليٍّ يفيض ألمًا، ويحمل على كتفيه إرث سومر وعيلام وأكد وبابل وآشور وكلكامش وممالك ميسان والحضر والحيرة العربية … ؛ نعم جاءني كغضبة نخلة في البصرة، كحنين طفلٍ موصلّي للمدرسة وسط الخراب والتشويه والتهجين … ؛ فالعراق ليس رواية تاريخية تقرأ قبل النوم، بل كيان روحيٌّ فيه نبض وألم , وفيه عارنا المشترك ومجدنا المنسي … ؛ ينهض في كل مفصل من مفاصل وجودنا، وإذا خذلناه، فإننا نكون قد خذلنا أنفسنا.

منذ تلك اللحظة، وجدت نفسي مسكوناً بمشروع لم أرده يوماً زينة ثقافية او ترفا فكريا او مشروعا سياسيا ، بل ضرورة حضارية: مشروع “الهوية الرافدينية” أو “الأمّة العراقية”، بما تحمله من عبق التأريخ وعمق الوجدان وحتمية النهوض… ؛ مشروع لا يقوم على ردّات الفعل الطائفية والعنصرية والقومية والمناطقية ، ولا على تقليد الأطر الجاهزة من قوميات مشوّهة وهويات مستعارة ومشاريع وبرامج سياسية منكوسة ، ولا على ايديولوجيات مصنّعة في دهاليز الدول والمخابرات المعادية والدوائر المشبوهة ؛ بل يقوم على فهم عراقي للذات، يتجاوز العرق والمذهب والمنطقة، وينطلق من الإنسان العراقي بوصفه ابن هذه الارض الطاهرة , وبصفته ابن دجلة والفرات وحفيد الحرف الأول والعجلة الأولى والقانون الأول.

هو مشروعُ وطنٍ لا يقبل التجزئة، ولا يحتمل التقسيم ؛ فإما أن نكتب مستقبل العراق بأقلامنا نحن، أو نُكتَبَ نحن – كأبناء جيل – في هوامش التاريخ الميت.

أحدث المقالات

أحدث المقالات