لكل منا دوافع خاصة تدفعه للكتابة , ولكلٍّ منّا بواعثُه النفسية، ولكل منا دوافعه الخفية التي تدفعه للكتابة , ولكلِّ واحدٍ منّا دَوَافِعُهُ الخَاصَّةُ التي تَحُثُّهُ على خوضِ هذا الميدانِ …؛ وأشهدُ – بصدقِ الضميرِ – أنني كُنتُ فيما مَضَى أكتبُ دِفاعاً عن الحقِّ والفضيلةِ وفق رؤيتي الدينية المتخشبة وفكري الذي لم يتهيأ بعد وثقافتي المحدودة , وخضت في مسائل فكرية وقضايا فلسفية وفقا لنظري القاصر وفكري الفاتر وقت مراهقتي , اذ كانت تلك المعاني والمواضيع أكبر من حجمي ومستوى ادراكي وقتئذ… ؛ لقد كنت فيما مضى أكتب بحسب ما يتيحه فكري المتواضع وعقيدتي الدينية … ؛ ثم انقضتِ السِّنونَ وأهلُها، ودارَتْ عَجَلةُ الزمانِ دَوْرَتَها، فتبدَّلَتِ الأحوالُ، وتغيّرتِ الأفكارُ، واختلفتِ الرُّؤَى والآراءُ؛ فالأفكارُ كالأسلحةِ تتجدّدُ بتجدّدِ العُصورِ و تتبدل بتبدل الأيام …، ومَنْ يُصِرُّ على التمسكِ برأيهِ البالي وفكره الجامد وعقيدته المتكلسة ؛ فهو كَمَنْ يُحَاوِلُ مُحَارَبَةَ الطّائِرَةِ الحديثَةِ بِقَوْسٍ مِنْ عَهْدِ عاد وثمود … .
فصرت أرى “حق الأمس” باطلاً في ضوء اليوم، و”باطل الأمس” قد يتشح اليوم بثوب الحق, واعدت النظر في التمييز بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة , وراجعت نظريات التقويم السلوكي والمعايير الاخلاقية … ؛ و هكذا وجدت نفسي أعيد النظر في مفاهيم الخير والشر, وفي نظريات الإصلاح والتغيير الاجتماعي ، وأعيد تمحيص نظريات السلوك، وأتأمل المعايير الأخلاقية التي شبّ عليها جيلنا , وراجعتُ نظرياتِ الأخلاقِ وسُلّمَ القِيَمِ… .
لقد كانت بدايتي – كما كثيرين – محكومة باليقينيات الأولى والدوغمائيات الدينية والافكار والتصورات الساذجة : فكنا نكتب لأجل ما نظنه حقًا، وندافع عن ما نراه فضيلة وبغض النظر عن الردود والاشكالات والتساؤلات التي تدور حول هذه الفكرة او ذلك المعتقد … ؛ وإنني أعترف، بلا تردد، أنني كنت أكتب سابقًا دفاعًا عن مفاهيم ظننتها من الفضيلة، فإذا بها مع الزمن تتحول إلى قيود ذهنية وسجون أخلاقية، تمنعنا من أن نرى العالم كما هو، لا كما ورثنا تصوره.
وبمرور الوقت تكسرت تلك اليقينيات تحت مطارق التأمل والنقد والمراجعة ،وصرت لا أعبأ بالشعارات , ولا أعير العبارات اهتماما ؛ بقدر ما يشدني صدق النوايا , وعلمية البرامج و واقعيتها … , واكتشفت مع الأيام أن الحقيقة لا تولد في حجر واحد، ولا في رأي ثابت، بل في جدلية مستمرة بين الوعي والتجربة، بين الخطأ والاعتراف، بين الوهم واليقظة… ؛ نعم لقد دار الزمان , وتكسرت أصنام ذهنية كنت أعبدها، واكتشفت – متأخرًا – أن ما كنا نراه حقًا هو أحيانًا ستارٌ للباطل، وأن ما كنا نصمه بالضلال ربما كان صرخة نذيرٍ لم نُحسن الإصغاء إليها… ؛ و علّمتني الأيام، بما فيها من تبدلات وتناقضات، أن الفكر لا يُقدَّس، وأن القناعات ليست تماثيل من حجر، بل كائنات حيّة تتغير مع اشتداد العاصفة واتّساع الأفق… ؛ وايقنت بأن الفكر المتكلّس هو موتٌ مؤجل، والكاتب الذي لا يُراجع ذاته، لا يُحرّر سواه… ؛ وجاءني الزمن ليقول لي : إن الأفكار ليست أصنامًا، وإن العقول لا تُحجر… ؛ فالفكر يتغير، والوعي يتمدد، والرؤية تتسع… ؛ وما كان بالأمس فضيلة، قد يصبح اليوم رجسًا، وما حسبته كفرًا، قد تكتشف فيه أعمق الإيمان بالإنسان والحرية والكرامة… ؛ وهكذا، لم أعد أكتب من أجل خطاب متوارث أو أيديولوجيا جامدة أو فكرة ميتة أو عقيدة ظلامية او فلسفة سلبية أو رؤى طوباوية … ؛ وصرت لا أرعى مع القطيع , ولا أردد الشعارات كالببغاوات , ولم تعد تنطلي علي المؤامرات والمسرحيات , لأنني سبرت أغوار المخططات , واكتشفت حقائق الشخصيات وزيف الشعارات , وعرفت أن خلف كل شعار براق خديعة , وخلف كل وجه مبتسم قناع , وخلف كل مشهد درامي يد تحرك الخيوط من وراء الستار … ؛ ولم أعد أكتفي بظاهر القول , بل أغوص الى العمق , أفتش في التفاصيل – لأني اعلم ان الشيطان يختبأ في التفاصيل – , وأقرأ ما بين السطور , فقد علمتني التجارب أن لا أثق الا بالعقل حين تضل العاطفة , ولا أراهن الا على الوعي حين يعم الضجيج … ؛ ومن ثم اصبحت افرغ افكاري وانظف نفسي من الشوائب والسلبيات قدر المستطاع , وتوقفت عن الكتابة برهة من الزمن … .
إلا أني أُصبتُ بالعدوى القديمة، فصرتُ أكتب للأفكار الجديدة، وأدافع عن الأطروحات التنويرية، بنفس التعصّب القديم، وأجادل بالتي هي أَرعن، وأقرب إلى الغلظة منها إلى الحكمة… ؛ وكأنما استبدلتُ الأصنام لا العقول، واستبدلتُ المسلّمات لا المنهج ؛ فصوتي تغيّر، لكن نبرته لم تهدأ، وأفكاري تبدّلت، لكن طريقتي في الدفاع عنها بقيت متشنجة، هجومية، لا تعرف الإصغاء… ؛ لقد اكتشفتُ أن العقل حين يُصاب بعدوى الإيمان المتطرف – حتى لو كان باسم العقل ذاته – يصبح أداة قمع لا تحرير، وسلاحاً يجرح باسم الحقيقة، بدل أن يُنير طريقها… ؛ وكم من متنورٍ صار ظلاً لمعتمٍ قديم، وكم من مفكرٍ تحوّل إلى داعية، يصرخ من أعلى منبر وهمي، يوزّع صكوك التقدم والنقد والمعرفة كما كانت تُوزّع صكوك الغفران…!!
ثم تحوّل الدافع عندي , فبدلًا من أن أكتب لمجرد الدفاع عن فكرة، او التبشير بعقيدة , او الدعوة الى ايديولوجية معينة ؛ أصبحت أكتب لأفرغ ما يعتمل في داخلي من رؤى ومشاعر وصراعات ونوازع وشهوات وتمنيات واحلام يقظة … ؛ وبتعبير أدق : أُفرِّغُ وَحْيَ وجداني على الصفحاتِ ؛ اذ صرت أفرغ شحنة أفكاري وثقل مشاعري عبر الكتابة ؛ فهي الرئة التي اتنفس من خلالها … ؛ وهكذا، كنت في مسيرة تأمل داخلي، أُفرغ أفكاري على الورق، وأمارس تطهيري الداخلي بالكتابة وحدها … .
هكذا تقلبتُ مع الأيام، وتحوّلت مع الأعوام، كموجةٍ تتناوبها الرياح وتتشكل على وقع التيارات الخفية... ؛ فقد بدأتُ رحلتي من ضفاف الكتابة الدينية المتشددة، حيث كانت الكلمات مؤطرة بالإيمان، مشبعة باليقين، لا تقبل المراجعة ولا المساومة… ؛ ثم انجرفت إلى مرافئ الأيديولوجيا السياسية، فصارت كتابتي صارمةً، جافةً، لا مكان فيها للذات، بل كانت بيانًا لا بوحًا، وخطابًا لا سؤالًا... ؛ لكنني لم أبقَ هناك … ؛ إذ سرعان ما شدّتني الأفكار الحرة والرؤى الحديثة، فسكنتُ في فضاءات التنوير، وركنتُ إلى الفلسفة، وغصت في الأطروحات العميقة التي تحاكم الوجود لا السلوك فقط… ؛ و كنت أظن أنني وجدت نفسي أخيرًا…؛ غير أنني أدركت لاحقًا أنني لا أكتب عن العالم، بل كنت أبحث عن نفسي في العالم… ؛ فانقلبت الكتابة عندي إلى طقس تطهيري، عملية نحت داخلي، أفرغ بها أحمالي النفسية، وأعالج بها أوجاعي المستترة… ؛ و صارت الكلمات مرآتي، وملجئي، وأحيانًا اعترافي الأخير... ؛ ثم تجاوزت حتى تلك المرحلة ، وبلغت مرحلة الكتابة من أجل الكتابة، أكتب لأن الكتابة هي أنا، ولأن الحرف صار وطنًا، ولأنني حين أكتب، لا أبحث عن حقيقة ولا أفرض رأيًا، بل أمارس وجودي العاري كما هو، بلا أقنعة ولا ادعاء…