19 ديسمبر، 2024 6:14 ص

الكتابة في معنى المعنى

الكتابة في معنى المعنى

(شمس النارنج ) حميد حسن جعفر “1” لم أجدْ فيما قرأتُ لـ “مقداد مسعود” ومنذ سنين عملاً شعرياً غامضا هكذا، وواضحاً هكذا، وأعني به عمله الشعري “شمس التاريخ”، الصادر عن دار الجفال 2011
هذا العمل الذي لا يشتغل على التشويش، على الرغم من أن أمراً كهذا فعل حاصل فعلاً، لا لأنه لا يريد أن يقول أي شيء؛ بل لأنه يريد أن يقول كل شيء. وما كان مقتصداً – بخيلاً – لأنه لا يريد أن يفضح أسراره، وأسرار من حوله؛ بل إنه يعمل على تدمير الواقع – وهذا ما يثير غضب القارئ الخامل – إنه يعمل على تشظية الصورة ـ وهذا ما يقلق سكونية القراءة ـ إنه يعمل على تحويل القارئ الى كائن آثاري، يشتغل مؤقتاً على الترميم. ليس هذا فحسب، بل من أجل أن يتحول الى ساحر، ساحر يشتغل على صناعة السحر الأبيض ـ لا تفكيكه ـ . “2” من أين من الممكن أن يبدأ القارئ رحلاته الاستكشافية؟من الصفحة الأولى من الغلاف، حيث العتمة، والوجه الطالع ـ مندفعاً منها ـ ؟أم من بياض الشاعر، وذهبية العتبة/ العنوان! أم من حمرة المنتوج/ الشعر، وجهة الإصدار/ الطبع هل كان المصمم ـ المغموط حقه ـ يشتغل على استقبال القارئ؟ أم كان يعمل على صناعة المتاهة أم سيبدأ القارئ من صفحة الغلاف الأخيرة! حيث صورة الشاعر الطيب البريء/ الفقير الى الله ـ الصورة التي كان عليها قبل أن يكون (مجنون النارنج) قبل أن يتحول الى كائن يساير شيطان الشعرصورة الشاعر هنا لا تدل على صورة الشاعر الذي اكتشف مؤخراً (نارنجه )إن اكتشافاً كهذا هو الذي وفر له ساحةً معرفيةً، فيها الكثير من التأني وتقليب الأشياء، وفرك مصباحه الخاص، لا مصباح علاء الدين. إنه اكتشاف اللاعقلاني في الواقع العقلاني المتحصن بالثوابت الأشياء بين يدي الشاعر تفقد وحدتها، ليتحول التجاذب الى تنافر، ولتتحول الموائمة/ الاتفاق الى اختلاف الشاعر يعمل على صناعة التناقضات، وعلى تدمير وحدة/ كتلة الموجودات عبر حذف أحد القطبين المتضادين، والتعويض بالمتشابه، وليتحول العالم الى نثار الشاعر لم يكن ولن يكون متقصداً هذا الفعل فحسب، بل يعمل على ما يليه من فعل يعيد للحياة لا وحدتها الغابرة. إنه فعل المغايرة والاختلاف. تلكما الصفتان اللتان ستكوّنان الحياة الجديدة واذا ما تمكن القارئ من أن يضع يده على هكذا

أفعال غير المتوقعة المنتجة لأفعال متوقعة، فإنه سوف يكون وسط المعمعة. والمعمعة هنا صناعة “اللامعنى”. حيث يتحول فعل الشاعر ـ صناعة الشعر وقراءته ـ الى هدف ما من وراءه قصدٌ أو صناعة شيء ما القصيدة لدى “مقداد مسعود” حالة من حالات التحليق/ الهبوط الحر. حيث لا وجود للـ “برشوت” الذي يشكل فعل الإنقاذ للجسد لحظة الهبوط. حيث لا ينتهي الهبوط هنا بالارتطام بحجر الأرض/ الموت. بل إن فضاء القصيدة لا حدود له. اذاً هناك تحليق لا نهاية له، وهبوط لا نهائيا. إنها الدائرة/ الحياة التي لا بداية لها ولا نهاية “مقداد مسعود” من أهدافه المرسومة، الوصول الى اللانهاية/ اللامعنى. هذا ما يؤكده في جميع قصائده/ طلعاته الجوية في الفضاء الخارجي للشعر. “3” سبع عشرة كتابة/ قصيدة تتحدث عن الكائن الشخصي الأقرب للشاعر، إنه المرأة/ الأنثى، حيث يتحول التاريخ الى قضية شخصانية تنتمي الى الذات، وليس الى الآخر. إلا إن الشاعر يعمل على صناعة الحضور من خلال الغياب هل كان على القارئ وسط هكذا إشكالات أن يشتغل على تدمير الحواجز وصولاً الى التماهي خلف الآخر/ النارنج الشاعر يعمل على صناعة المخبوء وعلى القارئ أن يشتغل بالموازاة لا بالضد، من أجل الوصول/ الكشف عن الشجرة/ الأنثى. الشاعر قد يجد نفسه واقفاً تحت مظلة الاشعار/ الكشف عن الآخر، ولكنه ما أن يجد نفسه هكذا حتى يستدير – مستدركاً – وبدرجة “360” من أجل إبقاء القارئ وحيداً، فريداً، وسط غابة الإدلاء بالشهادة التي – لا تغني عن الجوع – واذا ما كان الشاعر يعمل على صناعة العائلة “التاريخ، الاطرنجة، البرتقال” غير معترف بما يتبقى خارجها، من أنواع أخرى، فإن الانضمام الى هكذا تفاصيل لا يمنح القصيدة إلا نوعاً من المكشوف، وتحولها نحو المتداول. علماً إن الشاعر يعمل على صناعة اللامتداول. على صناعة الغريب من الصور، والاستنتاجات. على الغريب من الصلات والتواصلات ما بينه – الكائن الموجود في الغابة – والقارئ الموجود فعلاً خارج الغابة، حيث الفضاء المفتوح، والأشياء البينة، والوضوح التام هذه العلامات الموجودة في الخارج لا وجود لها في قاموس الشاعر، إذ انه يشتغل على البواطن، والغموض، والتلميح، والإيحاء، وهذه الدواخل بحاجة الى قارئ يشتغل على البحث والاكتشاف “مقداد مسعود” يدخل امتحان الكتابة أولاً، وحين يعتقد انه تمكن من ذلك يعمل على إدخال القارئ الى هكذا طقس ينتسب الى صناعة المطموس. فالشاعر يعلنُ، ويقرُّ، ويعترف بوجود الآخر/ المرأة، والآخر/ الأنثى، ولكنه مأخوذ بالتغطية، بعدم البوح بالحقائق المفترضة، الخفية. تلك التي لا يمكن الاعتماد عليها، وذلك بسبب عدم وجود حقائق على سطح الأرض، وعدم وجود ثوابت في عالم الشعر. ولأن الشعر يعمل على صناعة اللاواقع الذي يشكل الكثير من البدائل فما على القارئ إلا أن يبحث عن البدائل:

“تنفتح على وجهي وتنغلقُ.. تمسح وجهها بينبوعي ترخي غصنين على كتفيَّ، غصنين على خصري أطوقها.. تهمسُ: أنا النارنجُ، معتزلة بكَ وحدكَ يا فتى الاعتزال” ص8. “4” وعندما يبدأ الشاعر بصناعة الآخر/ الأنا، تبدأ لحظة الفشل في صناعة الغموض. في قصيدة “فتى النارنج” تتردد لفظة “النارنج” سبع عشرة مرةً. في هذه القصيدة ينضو الشاعر عن جسده ما يعيق الكشف، حيث “عري الطين المكتوم”. حيث لن يكون هذا الطين “اللازب” سوى الانسان في هذا النص يصل الوضوح الى ذروته، حيث يكون الشاعر وحيداً، لا أحد يعاين ضعفه، أو قوته، سوى قدرة الشاعر على استحضار الغائب والوضوح هذا في “شمس النارنج” في قصائدها السبع عشرة لا يمكن أن يصنعه الشاعر ضمن حالة من التفصيل/ الجزئيات. بل وحتى في هذه التفاصيل التي بقدمها للقارئ ضمن قصيدة “دعاء الأرصفة.. تحت سماء النارنج”، ورغم انه يقدم “الوجيز” أولا، ومن ثم “التفاصيل”، فإن فعلاً كهذا ما هو إلا لعبة داخل لعبة. إن لعبةً كهذه لا تنتج وضوحاً وشفافيةً بقدر ما تضع القارئ وسط جو غائم وغموض آخر. ولا أعتقدُ أن قارئ “شمس النارنج” من الممكن أن يكون بريئاً، أو مغفلاً، أو كما يقال “من أهل الله”. ورغم هذا لا يمكننا أن نقول إن “مقداد مسعود” يكتب للنخبة، أو يكتب لنفسه؛ ولكن من الممكن أن يكون هذا التوقع أو ذاك قريباً جداً من هكذا استنتاج. وربما يصل التفكير بالقارئ الى نظرة مفادها إن الشاعر يعمل ضمن نطاق نظرية “الفن للفن”، وذلك بسبب إصرار الشاعر على إبقاء كتاباته ضمن المنطقة الرمادية، هذا الخط الوهمي الذي من الممكن أن يعبره القارئ بواسطة كشافاته الفكرية وتحميل النص بعض المحمولات المنتمية للمخيال ..

“مقداد مسعود” الشاعر الواقف تحت تعريشة من الفكر والوعي والإدراك، لا يمكن لهكذا كائن انساني أن يكون بعيداً عن القارئ. بل كثيراً ما يعمل على عدم التفريط به، ولكن وضمن نفس المسار يعمل على عدم التضحية بالشعر، من اجل نص كتابي ما أن يواجه القارئ حتى تتكشف الكثير من مساربه إن وجود هكذا فضاء شعري ينتمي للدواخل البشرية/ الغواطس، تنتمي بدورها الى صناعة الأسئلة، تنتمي الى فعل شعري يشتغل على البياض والتنقيط والتماهي وراء الجزء الظاهر/ المفهوم. وجود كهذا لم يكن مفاجأة للقارئ � المقدادي المسعودي � بل إن الكثير من “الزجاج وما يدور في فلكه” و “المغيب والمضيء” فيهما الكثير من التواطؤ مع الشعر، في

سبيل تحويل القارئ الى مكتشف وصولاً الى بنية القصيدة، وبمعية الشاعر نفسه. “مقداد مسعود” لم يكن مستعداً للخروج من القصيدة، لا لأن القصيدة هي التي أمسكت به، بل لأن “النارنجة/ الأنثى” كانت مكبلة بالقصائد. ولأنه لا يمكن أن يتشكل انسانياً وشعرياً وفكرياً خارج اهتمامات الشجرة، متدفئاً بشمسها، مستظلاً بأغصانها: “في شتاء قميصي، لن أصل اليكِ عبر المرايا، لن أذبحَ يوماً، أو استعينَ بهدهدٍ، بهذه الزهرة التي ألوح بها أمامكِ، استظلُّ، وبها أسلك الدربَ أواصل الغناء، لينبجس النارنج من ثوبها النيلي”. ـ دشداشة صبغ النيل گومي، گومي بطرگها ـ هلوو “5” هل وضع القارئ يده على كائن سوى ادم وحواء في مكان كالجنة قبل أن ينزحا منها. قبيل أن يسفكا دماً ويعيثا فساداً في الأرض/ اللاّجنة القارئ لن يجد أمامه نهاية لقراءاته، حتى وإن وضع إصبعه على بداياتٍ للقراءة القراءة هنا لا تصنع حلولاً، ولن تشكل بوصلةً أو اسطرلاباً، بقدر ما تشكل متاهات بعيدة عن صناعة الكوابيس. إنها القصائد الأحلام. حيث تفقد هكذا ممارسات كل ما يمت بصلة للحياة الواقعة خارج الحلم. حيث لا أزمنة، حيث لا أمكنة، ولا وقائع. وقد تذهب الأحلام الى عدم ممارستها، لحظة مغادرته لحظة النوم، أي لحظة دخوله اليقظة/ حيث الواقع المتناقض ومن حق القارئ أن يتساءل مع نفسه قائلاً: ومتى كانت الأحلام تمثل الواقع أو الزمن بكل تنوعاته. إذ إن الحلم نفسه هو فعل يقف خارج المتوقع، خارج المستقبل. فعل لا يحاسب عليه القانون أو الشرع، فعل لا وجود له خارج اللافهم ورغم اشتغال الشاعر على خصوصية الآخر ـ ضمن عملية البوح ـ إلا انه كثيراً ما يوحي للقارئ بأن الأخر رغم حقيقيته المفترضة لن يكون إلا ضمن الوهم. واذا ما كان الشاعر ماكراً والقارئ بريئاً، فإن عملية الوهم هذه هي فعل حاصل لا محال. ويقف ضمن القصدية، علماً إن الشعر عامة يشتغل على الوهم لا على سواه. كما اشتغلت من بعده الفلسفة في صناعة المدينة الفاضلة. بل إن أكثر المهام التي من أجلها اخترع الانسانُ الشعرَ، هي مهمة تحويل الموجودات الى أوهام/ متحركات فالمغايرة هي ما يمكن أن تشكل الحياة، التي يسعى الشاعر الى إثبات وجودها كبديل لنفي الثوابت من اجل خرق جدار الحقائق. رغم فرضية وجودها أو عدم وجودها. فإن الجنس/ الآيروس من الممكن أن يشكل السندان الذي يطرق الشاعر عليه معادنه، لتحويلها الى أشكال أخرى/ سبائك. ومن أكثر معادنه

حضوراً ما يسميها الشاعر “النارنجة”. فالى جانب الوهم يأتي الجسد، بكتلته، ووظائفه، ومفروزاته إن الشاعر لا يكف عن إنتاج المغايرة عبر إنتاج تعدد السبائك المعتمدة على اختلاف النسب التي تتشكل من خلالها. القارئ لحظة استقباله لسبائك الشاعر، عليه أن يكون ممسكاً بحجر الكشف، التي وظيفته بالأساس كشف المعدن/ الذهب ـ الشعر عن سواه من المعادن التي تنتمي الى “الشـِّبهْ”. هكذا يعمل “مقداد مسعود” الجواهرجي/ الشاعر، لكي يكون متأكداً من حجارته/ معادنه، لكي لا تذهب الى أيدي المهربين الذين يتشبهون بتجار الأحجار الكريمة. “تافهٌ وطفيليٌ، لا نواة له هذا الوقتُ كأنه بكتريا، لحظةٌ لا جنسية تتكاثر بالانشطار”. عبر هكذا معادلة يتحرك الشاعر، هذه المعادلة الذهبية، إن كان هناك قانون ذهبي يعتمد على اللاقانون إنه متأكد جداً إن هكذا استنتاجات قد لا تشكل حالة اهتمامات للكثير من المحسوبين على القرّاء الماكرين. بل إن الزمن برمته من الممكن أن لا يشكل اهتماماً للحشود من القرّاء الاعتياديين. *** هل من الممكن أن أقف خارج القراءة مؤقتاً؟ لأقول إن “مقداد مسعود” يعمل على صناعة الحب! أو صناعة الجسد! وصناعة اللذة إن صناعات مثل هذي وتلك بحاجة الى مكتشف، ولأن القارئ كان ومازال مستقبلا للمكشوف للمدون/ الصورة، حيث العلامات والإشارات، والتوجيهات فإنه سوف يجد نفسه ـ رغم وجوده وسط بستان النارنج ـ سوف يجد نفسه وسط صحراء من التيه. صحراء من الممكن أن تبتلع جميع الآثار، وأن تخفي طرقاتها المؤدية الى حافات العالم/ الى المراقص والمزارع وحوريات البحر – كل هذا الذي لا وجود له إلا على الورق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات