الى ذكرى محي الدين زنكنة..
(*)
إذا استطاع (مصطفى سعيد) ان يتماهي في فيضان النيل ، ويتجذر في تراب السودان ، فأن (باولا) إبنة صوفي ، التي قررت مغادرة فرنسا والعيش في حلب والزواج من قريب حلبي من جهة الام ..، لم تستطع العيش في حلب بشرط إخصاء ذاتها مثل (سمية )..والفرق بين مصطفى سعيد وباولا ، هي تلك المسافة من الوعي الحاد ،في الوضع العربي التي جعلت الانسان العربي يرى في (بلاد تموت من البرد حيتانها /ص11 – موسم الهجرة …) : حرية في تناول الحياة شعريا ،وكرامة غير مثلومة ..والسارد المشارك في (موسم الهجرة الى الشمال ) هو الجيل التالي لجيل مصطفى سعيد لكنه يرى مقياس الخير: في سكونية حياة قريته..فهو بعد سنوات تعليم في أوربا ،يرى الخير في نسق التكرار الراسخ ..(جلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة .نعم الحياة طيبة، والدنيا كحالها لم تتغير ../12) !! وهذا السكون يزيد التوجس من الآخر المختلف ،يتضح بعودة السارد في (موسم الهجرة…)، حين تخاطبه بنت مجذوب ضاحكة (خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء../14).. باولا العائدة من باريس سيطلق بعض اقاربها عليها : الاجنبية !!.. والفرق بين (موسم الهجرة…) و(حبل سري ).. ليس في الوعي الاجتماعي الحاد فقط ، بل بفاعلية التراكمات الكمية في السرد منذ منتصف القرن العشرين الى متغيرات قرننا الحالي ..
(*)
ماعانته صوفي ،سبقها في ذلك السارد المشارك في رائعة الطيب الصالح (موسم الهجرة الى الشمال)، ومسرّحه رمزيا في الصفحتين الاخيرتين ..( كنت ما أزال ممسكا بخيط رفيع واهن : الاحساس بأن الهدف امامي لاتحتي وانني يجب ان اتحرك الى امام لاالى الاسفل ،لكن الخيط وهن حتى كاد ينقطع ووصلت الى نقطة احسست فيها ان قوى النهر في القاع تشدني اليها .فاذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب .لن أستطيع المضي ولن استطيع العودة../176) ثم يرى السارد سرب فيتساءل (هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف ؟ هل هي رحلة أم هجرة ؟ وأحسست انني استسلم لقوى النهر الهدامة ) لكن السارد سيجالد في النهاية وسيعرف موقعه من النهر انه خارج سرديات نص النهر (وتحددت علاقتي بالنهر انني طاف فوق الماء ولكنني لست جزءا منه) ثم يعلن السارد بنبرة تقريرية عالية (فكرت انني اذا مت في تلك اللحظة فأنني قد مت كما ولدت ، دون ارادتي .طول حياتي لم اختر ولم اقرر) ثم يقرر اختيار الحياة وبعد لحظة تفكير يعلن (سأحيا بالقوة والمكر../177) وحين تصير قامته كلها فوق الماء، سيصرخ بكل طاقته وكأنه (ممثل هزلي يصيح في مسرح : النجدة .النجدة ) ويكون صراخه مسك ختام الرواية . والوحدة السردية الاهم في هذا المنولوغ هي ( وإذا كنت لااستطيع ان أغفر فسأحاول أن انسى /177) هذا القرار هو الذي افتقدته صوفي بيران فهي : لم تغفر ولم تحاول
التناسي ..أولا هي المتعدد في الواحد ،فهي نسوة في إمرأة مثنوية التسمية : حنيفة / صوفي ، كما انها نسوة في إمرأة ، وصوفي وهنا جزء من اشكاليتها (لاتعرف أي واحدة تمثلها أكثر ../86) وبين حركتيّ الانتباذ / الانجذاب يتسمّر انقاسمها الاخير (في لحظة أبدية بين هويتين ،فمهما حاولت المدعوة صوفي في أوراقها الاخيرة الرسمية، حيث شاهدة قبرها تحمل هذا الاسم على الاقل، مهما حاولت فرز انتماءاتها وترتيبها…وجدت نفسها أمام انتماءين أخيرين ، يصران على التماهي بها فهي حنيفة وصوفي معا..) وكل اسم لها يبث فاعلية خاصة فالضعف والخذلان والاحباط ، يسقطها في سنواتها الاولى فترى الطفلة حنيفة .وكذلك حين تكون صوفي بيران (دون غطاء في العراء، وحيدة كذئبة جريحة، مذعورة ويائسة تشعر انها حنيفة ).. وفي لحظات زهوها بذاتها وخياراتها (تشعر انها إبنة ذاك العالم الذي التجأت إليه واختارته وحفرت مكانا لها فيه، لتصبح عن حق : صوفي بيران / 86) ..إنها حنيفة الكوردية التي ولدت بلا وطن وبلغة كوردية ممنوعة تداولها في الاوراق الرسمية السورية وهي حنيفة التي بعد تطليق امها هجرها ابوها وغادرها كل الذين تحبهم وهكذا تم انتزاع المكين من المكان واللغة والقومية وفراديس الطفولة ..
(*)
خلاصة الرواية توجزها لنا باولا إبنة صوفي (فرت أمي من جحيم الشرق لتخلص ..ثم جئت أنا، وانوجدت في الكون كأمرأة غربية ، لأن أمي ولدتني من رجل أوربي فمنحتني مصيرا مخالفا لها هو الحرية .الحرية التي لاندرك طعمها نحن الفرنسيات ، إلاّ حين نتذوق علقم الشرق /240)..
في هذه الرواية نكون امام نسق انثوي ثلاثي
*الجيل الاول يكابد شراسة الرضة : تمثله صوفي
*الجيل الثاني تمثله : باولا ، ميدانيا : تتخلص من الوعي الإستشراقي الزائف
*الجيل الثالث : الطفلة إلزا إبنة باولا : تعيش مؤتلفة فرنسيا ..
(*)
كعادتها، تزجنا مها حسن :طواعا بغابات سردها ،كما فعلت ذلك في (الروايات ) و(تراتيل العدم ) ..تتكون روايتها(حبل سري ) من ثلاثة فصول : صوفي بيران / باول بيران / إلزا بيران ..شخصيا تنحاز قراءتي الى الفصل الاول وهو المتن والفصلان الثاني والثالث بدرجة حاشيتين على الفصل الاول.. وبإستثناء الفصل الاول، فأن الرواية كان من الضروري ترشيقها ،ليكون التركيز على اتصالية التضاد بين باولا وعائلة امها وكذلك لملمة المناخ الثقافي في حلب ، اما تناول الوضع الكوردي فكان متماسكا وضروريا لما له من صلة ..بتسليط الضوء على الاضطهاد الذي يكابدونه الكورد في سوريا..
(*)
وكعادتها السردية تقوم الروائية برفدها نصها باتصاليات برانية
* مؤلف رواية (الخيميائي)
* رامبو
* وثمة اتصاليات جوانية مع روايتها (الروايات)
* يجسد ذلك الروائي آلان بيران وكذلك وجود روائية تكتب داخل الرواية مرتين ، مرة من خلال صوفي نفسها وهي تكتب روايتها (الخيميائية ) وثانية من خلال ابنتها باولا..
(*)
يشتغل الفصل الاول على فن النقلة المكانية / الزمانية بين الهنا / الهناك ..بين : الآن / فيما مضى .وهنا تكمن مهارة السرد ورشاقته أيضا ،في هذه الرواية التي انتهت الروائية من نسختها المعتمدة الاخير في باريس 2009 ..وظيفة النقلات يمكن ان تكون للمقاربة / المقارنة وبهذه النقلات ستمسك قراءتي (العنصر السائل ) عبر فن النقلات ..صوفي تتعامل مع رضات وعييها وصداماته وجروح هذا الوعي بطريقة المرايا غير المستوية ، والجملة المحذوفة من سرديات حياة صوفي هي (نحن نبني للموت )..وحين يحذرها زوجها من سرعتها اثناء السياقة ( ستقتلك هذه السرعة ذات يوم) يكون ردها (سأموت وحيدة لأنك لن تكون معي آنذاك / 2)..في حوار آخر يخاطبها (ربما تذهبين ذات مرة ،فتكون الاخيرة) فتجيبه صوفي (أتعني أني سأموت ؟) فيكون رده (أن تكتشفي مكانك بعيدا عني /5).. في هذه الحواريات القصيرة ، تكمن ذرة الفعل الاستباقي لما سيسرد آجلا ضمن الرواية ، ماسوف يروى ضمن الرواية التي بين ايدينا، وما سبقنا زوجها آلان بيران واعلنه في روايته (الرغبة الاخيرة لصوفي بيران ) ..وبموازاة سرد آلان بيران ، هناك تأنيث السرد من خلال صوفي نفسها .. فهي (تحتفظ بملف عن نفسها،وهذا طريف تكتبه بلغة لايمكن لأحد معارفها قراءتها ،ليست اللغة الفرنسية، ولا الانكليزية ،حيث تتقنهما تماما، اضافة الى العربية ،بل بلغة رابعة تكتب صوفي ملفاتها الشخصية محاولة معرفة الكائن المدعو : صوفي بيران ../19) في القراءة الثانية للرواية سيعرف القارىء ان اللغة الرابعة هي لغة: ماقبل اللغات الثلاث ، هي اللغة الام ، والكتابة باللغة الرابعة، عودة عبر الملفوظ السردي الى الرحم ..والسؤال هنا هو : هل عبر هذا السرد المشفّر تحاول صوفي بيران ان تردم ..(تجويف كبير، هوة سحيقة ،مخيفة ،تشدها الى العدم ../4)..ربما حين نتوغل في غابة سرد الرواية ، سنلتقط المفتاح اللغوي التالي ونستعمله في تفكيك دوافع صوفي للثأر القومي أعني ستعيننا ابنتها باولا حين تغادر باريس وتقصد مسقط رأس امها في منطقة (ماتنلي) ، ستعيننا باولا وهي تزور تلك المدرسة النائية عن حلب نفسها ويصدمها الانفصام اللغوي فأولاد المنطقة وبناتها (يتحدثون بالكوردية في المنزل من الصبح حتى المساء ويستعملون العربية في المدرسة فقط ../204)..اللغة العربية هنا تبث بإنزياح موّجه ،من خلال الحكومة البعثية ، وبشهادة جيان الكوردي الحلبي (نعتبر البعثي بيننا ،بمثابة المرتد فالبعث نظام قومي عربي، يلغي القوميات الأخرى ،ناهيك عن كون النظام الحاكم نظام دكتاتوري ../173)..أ ما اللغة الكوردية فهي اللغة الام بتلقائيتها ..
(*)
باولا تنظر الى الشرق بمخيال استشراقي راسخ في سكونه عند شرق الإنهمام الجنسي ،وهكذا يتحول الشرق لدى المركزانية الامبريالية الى منتجع جنسي ،فهو شرق الليالي الألف (الرجل الفحل ،الاشباع الجنسي ../240) وحين تقول باولا..(نكهة الشرق التي ظللت الكثيرين والكثيرات منا، هي التي تخدعنا كسراب الصحراء ../240) أقول يابولا الشرق المقهور لم يخدع احد ، الخديعة : صناعة استشراقية ،
خطاب مركزاني مضلل انتجته أمبريالتكم ،لتستنزفون الشرق ، فالفنان الاوربي ، مهووس بتصوير حمامات النساء والجواري، ولم ينتبه لملامح الكادحين الممصوصة بسبب الاستغلال ..
(*)
لو لم يحدث الطلاق ، عبر القرعة وهي قرعة اقترحتها سلطة الأنوثة في العائلة على الاخ الاوحد كمال ،المسلوب الارادة ..لولا القرعة لما تم تطليق احدى الزوجتين ، القرعة لاتعني الديمقراطية ،بل عبثية الاختيار ، وهكذا تم تطليق الزوجة الكوردية فريدة ، والإبقاء على الزوجة العربية فاديا ..من هذا السرد البغيض للكينونة المتجسد بالتطليق ، إنبثق جرح سرد الرواية (حبل سري ) والمتجسد في نفسية حنيفة،فالطلاق الاسم الثاني لليتم ، وبالنسبة لحنيفة صارت يتيمة الأب والتقط الاب ذلك وحاول تضميد جرح ابنته بحنان عمتها التي اسمها حنيفة وهي شخصية انثوية تمتلك احاسيس دافئة ،مع مَن يستحقها وهكذا استطاعت العمة في تخفيف جهامة سرد الطلاق على نفس سميتها حنيفة ..لكن حين تفر من جحيها وتصل عاصمة النور والعطور والعشق ،لاتنظر صوفي الى الامام ، بل تلتفت صوبها فردوسها المطرودة منه ، فكيف لإمرأة مثل صوفي يسكنها زمنها النفسي الخاص ان تؤمن بتعدد الهويات كحالة صحية ؟!،وكيف لايغمرها التيه ؟! وبشهادة جوليان (مشكلة صوفي انها وقفت عند لحظة معينة هي حالة الظلم التي تعرضت له في الماضي ولم يقنعها حاضرها كأمرأة فرنسية حرة ، من التخلص من عقدة الاضطهاد والسلب ../137)..صوفي لاتخشى الموت بل (الأفتقاد الى الامان .الخوف الدائم .تلك الرجفة الأبدية ، ثمة تجويفا عميقا…/7) ماتعنيه صوفي لن تفقهه المحللة النفسية دومنيك ،تمردت صوفي على نسق الذكورة في ماتنلي ..نسق الذكورة في حلب ووصلت باريس لتجترح صيرورتها الانسانية ، لكن (لم تستطع صوفي خلالها ان تحس بالانتماء بالاقامة /69)حاولت دومنيك ان تقنعها (ان الاقامة ليست المكان ، المهم الكائن ذاته ) ..دومنيك ليس بمقدورها خياطة جرح صوفي التي حين كانت في حلب كان أسمها حنيفة ، ان جسارة تمرد حنيفة على اهلها تحديدا كلفها كل الجرح النفسي الذي لاشفاء له (على قلق كأن الريح تحتي) نصف بيت المتنبي هو خير تجسيد لمعاناة صوفي التي كان اسمها حنيفة ،وبشهادة الروائي جيمس بالدوين ( ليس الوطن مكانا ولكن شرطا لايمكن انكاره ) وجرح جسارة حنيفة على اهلها ، سيتضح بشكله المرآوي القاسي في استقبال ابنة حنيفة باولا وتحديدا على والديّ حنيفة اعني كمال وفريدة / ص155- 157
(*)
كمال حاول الانتباذ عن مؤثرية سرد الانثى في شخصه ، (حاول كثيرا النأي بنفسه عن دائرة نساء العائلة المتسلطات ،فكونه الصبي الوحيد بين ثمانية نساء من طراز أمه وأخواته ،لم يكن سهلا عليه الحفاظ على استقلاليته الذكورية ../28)…نسوة بيت كمال كلهم أمازونيات !! يستعملن جمالهن الجسدي لإخضاع أزواجهن ،وهناك ذكورية سلطة الشارع التي تراه (..أخو البنات) ومابين القوسين يستعمل (للأنتقاص من ذكورية أحدهم /29) ..لكن يبدو ان سرد الانثى في شخصية كمال بمنزلة الحتم التاريخي ، أو الجبر الإلهي ، وستكون شخصية كمال ، صالحة للأنتقام من خلالها من سلطة الذكورة بالنسبة لزوجته فاديا (وهي البنت الوحيد بين أربعة ذكور يتدخلون في تفاصيل حياتها ويضيقون عليها الخناق ،لذلك أتسمت بحالة دائمة من الاستسلام والخضوع ../28) لكن يبدو زواجها من كمال اطلق
الوحش الذي في داخلها وجعلها تثأر من ذكورة عائلتها من خلال كبش المحرقة زوجها كمال !! من الجانب الثاني /الهناك ،الفرنسي ، من خلال صوفي حدثت الولادة الثانية للروائي آلان بيران فروايته الاولى (المتع الخبيئة) مضى عليها سبع سنوات، لكن (بأستسلامه لتيار صوفي الجارف ، كتب آلان روايته الثانية والثالثة وهو يعمل على الرابعة ../40) وهنا تحولت صوفي من ذات الى فاعلية اخصاب للقوة الروائية لدى الروائي الباريسي آلان بيران . وآلان يذكرني بعض الشيء بأولئك الروائيين في رواية مها حسن (الروايات) والتي سبق لي وتناولتها نقديا ..
*مها حسن / حبل سري/ دار رياض الريس/ بيروت / ط1/ 2010
*الطيب صالح / الأعمال الكاملة / دار العودة / بيروت / طبعة 2010