23 ديسمبر، 2024 12:27 ص

الكتابة الرقمية – هل رفعت الأقلام وجفت الصحف ؟

الكتابة الرقمية – هل رفعت الأقلام وجفت الصحف ؟

الكتابة الإلكترونية ليست نوعاً آخر من الكتابة، بل نافذة معرفية أخرى بعيدة تماماً عن الكتابة على جدران الكهوف والبردي والرقم الطينية والأنسجة والأقمشة وصولاً إلى الكتابة على الورق التي تعلمها الإنسان وطوّرها عبر القرون حتى ابتكر غوتنبيرغالألماني الطباعة، فأحدث ثورة في عالم الكتابة، وباتت في متناول الملايين عبر نسخ الكتب وتكثيرها. الكتابة الرقمية ثورة أخرى أكبر بكثير من الطباعة، وهذا معنى آخر يمكن إضفائه على الحديث النبوي “رُفعت الأقلام وجفت الصحف” حيث لم يعد القلم والورق والكتاب ينفع في العصر الرقمي.

بدلاً من الورقة والقلم، يفتح الكاتب الإلكتروني ملفاً للكتابة، من نوع wordمثلاً،ويتطلع للنافذة الظاهرة أمامه ليبدأ الكتابة، وبهذا هو يغادر أساسيات الكتابة عبر التاريخ، فلا قلم ولا يراع ولا ريشة ولا ورقة مخططة أو بيضاء، إنّه عالم النوافذ والشاشات.

الشاشة المفتوحة أمام الكاتب ليست “صفحة بيضاء عذراء تنتظر يراعه” كما اعتاد الكتاب الورقيون أن يقولوا، بل نافذة مفعمة بالمعلومات ووسائل التعامل معها، هذه النافذة هي تركيب فني رقمي وأداة تربوية وتجربة فكرية في آن واحد، وهي أبعد ما تكون عن الوصف التقليدي “صفحة بيضاء يحولها يراع الكاتب إلى قطعة مفيدة مؤثرة”، وهي تهدف إضافة إلى دعم جهود الكاتب، إلى توجيهه لكيفية التفاعل معها والتنقل خلالها، فهي تغير فورمات الصفحة وفونت الكتابة ولون المقاطع وتظلل له ما يشاء، وتخلط بين اللغات المختلفة وتضع معادلات الحساب في وسط الصفحة. تهدفهذه الواجهات المضرّبة (أي المعاد تصويرها) إلى تعطيل التوقعات وإثارة التفكير. الغرض منها هو مساعدتنا على رؤية – وما وراء المساحة البيضاء عبوراً إلى حدود الواجهات التي تتوسط حياتنا الرقمية اليومية، ويتم هذا بالنظر المتصل إلى خارج ملف “وورد” إلى ما تعرضه شاشة الكومبيوتر من خدمات ونوافذ، وما تعرضه مواقع البحث ومنصات التواصل الاجتماعي، وهي في العادة مفتوحة جميعها أثناء عملنا، وهنا لابد من التأكيد على قوة وصلة الانترنت، فكلما كانت الوصلة أقوى، تعرضالنوافذ مساحات أكثر تحريكاً للخيال. نحن محاطون بواجهات تقوم ببناء وتسهيل كل تفاعل بين الإنسان والكومبيوتر وقدراته الخارقة على التنقل. ومع ذلك، فإنّ عملية تطوير وتصميم هذه الواجهات ليست محايدة. إنها جزء لا يتجزأ من مسار ثقافي وتاريخي معين ولا يمكن الخروج عنه على ألأقل في هذه المرحلة.

لكنّ الكتابة الإلكترونية في حقيقتها حتى هذا اليوم هي ثورة أخرى في عالم الكتابة، لأنها فتحت الآفاق أمام الكاتب بحيث يستطيع أن يستطرد إلى ما لا نهاية له من الأمثلة والاستشهادات والروابط عبر ربط ملفات صوتية بالمقال وربط فيديوهات، والانتقال عبر الهايبر لينكس إلى مواضيع ذات صلة، وهذا تتحول المادة المكتوبة من مجرد مقال إلى وسائل عرض متعددة تعزز المادة وتكثّف الفكرة في ذهن المتلقي، والمتلقي هنا ليس مجرد قارئ يتصفح كتاباً، بل عنصر فاعل في المحتوى الإلكتروني، تارة يفعّله صوتياً، وأخرى يذهب به إلى فيديوهات مقتبسة عن وسائل عرض أخرى مثل التلفزة أو السينما، وقد يذهب به إلى فيديوهات معروضة على يوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى، في الحقيقة إن الكتابة الإلكترونية لو روعي فيها عامل التنوع الذي توفره للكاتب، ستأخذ المتلقي في سياحة معرفية انسكلوبيدية موسّعة.

لكنّ هذا النوع من الكتابة، يتطلب أن يتصل النص بشكل دائم بالأنترنت، وحالياً يجري هذا عبر النصوص الإلكترونية المتربطة بمواقع، مثل المواقع الخبرية الكبرى والمواقع التخصصية والأكاديمية، وصولاً إلى البلوغات الشخصية (المدونات) وصفحات فيسبوك، فكلها توفر للقارئ خيار الوسائط المتعددة، وفي جميع الحالات يشترط أن يبقى النص الذي بين يدي القارئ متصلاً بالأنترنت لتتحقق التجربة الموسوعية وفوائدها.

إتقان الكتابة الإلكترونية يتطلب مهارات، ويعرض موقع “أون لاين كولج” المتخصصبالدراسة الاكاديمية غير الحضورية عبر الانترنت الوسائل والتقنيات المطلوبة لتفعيل هذا النوع الجديد من الثقافة، فالكتابة الإلكترونية في حقيقتها انتقال ثقافي سريع إلى عالم آخر، وتلزمه وسائل الانتقال الجديدة، وكل ذلك عبر المواد المنشورة إلكترونياًدون اللجوء إلى الكتاب الورقي المستقر بين جلدين أنيقين، فهو جامد لا يتوسع.

ويعرض البروفسور جيف غرابل تفاصيل موسوعية عن هذا التوجه في موضوع نشره على موقع  Edutopia.org التربوي التعليمي أهمية الكتابة الإلكترونية خاصة في التربية والتعليم المعاصر، كاشفاً عن حقيقة الفجوة القائمة حاليا والتي تتسع باضطراد بين نظم التعليم المدرسي والاكاديمي، وبين عالم الكتابة الالكترونية أون لاين التي توسع المعارف. فالتلاميذ وبدءًا من سن العاشرة صاروا متصلين بعالم الرقميات والسايبر عبر شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، انستغرام، تليغرام، سنابتشات، تيك توك، وحتى مسانجر فيسبوك، ومنصة واتساب ومنصات أخرى تظهر كل يوم وتغير مفاهيمهم عن العالم.

جائحة كورونا التي اجتاحت العالم في ربيع عام 2020 قادمة من الصين، أرسلت ملايين التلاميذ والطلبة إلى بيوتهم ليتواصلوا مع معلميهم ومدرسيهم عبر الميل والبلوغروالهاتف، فبات التعليم خارج جدران المدرسة وهذه نقلة كبرى، وبنفس المقدار أجبرت الجائحة ملايين الموظفين والصحفيين والباحثين واساتذة الجامعات على العمل من بيوتهم، لتثبت للجميع أنّ الجامعات بشكلها الحالي لم تعد أكثر من مؤسسات عتيقة يتطلب تغييرها ثورة سايبرية.

الورقة البحثية التي تجلس لجنة وقورة من أساتذة الجامعات لمناقشتها ومنح كاتبها لقباً علميا بسببها، باتت اليوم ضعيفة متهالكة جداً أمام العالم الموسوعي الذي توفره المنصات للكتّاب الالكترونيين، إنّ صح هذا الوصف، وأراه من جانبي واجباً للتمييز بين الكاتب الورقي، وهو ما زال قريباً من الصحافيين العاملين في الصحافة الورقية وعملهم، وبين الكاتب الإلكتروني الذي يوظف كل دقيقة مهاراته الرقمية ومعرفته السايبرية لكتابة مادة واعدادها.

كثير من الكتّاب الورقيين اليوم عاجز عن الكتابة الإلكترونية لأنه لا يتقن مهاراتها.

مختبر أبحاث أوستن في جامعة تكساس المتخصص بالكتابة الإلكترونية، عرض مهارات عدة يجب إحرازها لتحقيق “التفكير النقدي والتواصل الفعال، والمواطنة الناشطة” وذلك من خلال:

*اتقان حزم السوفتوير المتداولة اليوم، ووسائلها التقنية.

*القدرة على التعاون الفعال بشكل متزامن أو غير متزامن مع التنقلات الزمكانية التي يعرضها النت.

*القدرة على أنتاج وتحليل ومشاركة المعلومات عبر الوسائط الرقمية المتيسرة وبمختلف الفورمات.

*القدرة على إدارة وتحليل وتوليف البث المتزامن متعدد الوسائط وصياغته بفورمات يناسب المتلقي حسب القدرات السايبرية التي يملكها.

كل هذا المهارات، تتوسع وتتغير كل يوم بظهور وسائل تواصل جديدة، ابتداء من الهواتف الذكية مروراً بالكومبيوترات اللوحية “تابلت“، وأجهزة اللاب توب، وحتى الكومبيوترات المكتبية، وصولاً إلى الأسورة والساعات الرقمية، وشخوص الذكاء الاصطناعي Artificial Intelegence، ووسائل الارتباط بكومبيوترات السيارة وأجهزة الملاحة والانتقال المتزامن بين أكثر من جهاز وعبر أكثر من منصة.

مشروع Technorhetoric.net في جامعة ميشيغان الحكومية يركز على التكنلوجيا وتعريفها للكتابة الرقمية باعتبارها “كتابة منتجة على الكومبيوتر وموزعة على عالم الانترنت عبر منصات مختلفة”، مذكّراً أن هذا النوع من الكتابة يعد بمثابة أول انتقال منذ ثورة الطباعة إلى نوع جديد من التواصل. والحقيقة أن الكتابة الالكترونية هيإعداد نص وربطه في نفس الوقت بعالم الانتشار، والكاتب في هذه الحالة يقوم بكل الأدوار الكلاسيكية في آن واحد، فهو كاتب ومصمم وناشر وموزع للنص في نفس الوقت، وفي المحصلة سيقود هذا عبر مئات السنين إلى إلغاء دور الناشرين والموزعين والطباعين ودور الطباعة والنشر.

اتقان المهارات التي تتطلبها الكتابة الرقمية لا يلغي بأي حال موهبة الإنشاء التي يجب أن يملكها الكاتب. الكتابة الرقمية تؤهل المتعلمين للكتابة والنشر، لكنها لا تقدم مواهب جاهزة لهم، الموهبة مقدرة فردية تتطور بقدرات الإنسان نفسه، وتشحذها دائماً القراءة المستمرة.

مع تطور المنصات، على الكاتب الإلكتروني أن يتقن كيفية ربط نتاج المنصات المختلفة بالنص الذي يكتبه، وتعتمد كل المنصات الإلكترونية اليوم على ربط فيديوهات وروابط صوتية وصور وملفات صور يمكن تصفحها، علاوة على ما تنتجه وسائل التواصل الاجتماعي من بوستات فيسبوك وفيديوهات يوتيوب وتغريدات تويتر وصور انستغراموتلغرام وصولاً إلى نتاج مئات المنصات الجديدة التي سوف تظهر تباعاً.

ربط هذه المنتجات يحقق للعمل نفسه تفاعلاً على مستوى منصات مختلفة، ويعين محرّكات البحث العملاقة على نشر المادة وإيصالها إلى مساحة أوسع من المتلقين.

جائحة كورونا فرصة تاريخية للتعليم الإلكتروني

أفرز المقطع الزمني المتصل بجائحة كورونا خبرات وتطبيقات مضافة للتعلم الالكتروني، وما تبقى هو أن تتقن الهيئات التعليمية هي أيضاً اتمام التواصل بهذه الطريقة. كثير من الأكاديميين يشكون اليوم أنهم لا يملكون وسائل تقييم جهد التلميذ والطالب، لأنه ببساطة وبعيداً عن رقابتهم وإشرافهم المباشر سينتزع من النت معلومات ويلصقها في بحثه أو واجبه البيتي بما يجعله أغنى من مجرد إجابة لسؤال أكاديمي. وهذه مشكلة كبرى تواجه تركيب العملية التدريسية برمتها، ولابد من الوصول إلى حلول تغير قواعد الارتباط بين المدرس والمعلم من جهة، وبين التلميذ والطالب من جهة أخرى، فبينهما توجد جهود أطراف منتزعة من النت، وهي تغير المعادلة بقوة.

ويقترح المختصون إقامة ما يعرف ب “مركز الكتابة” في كل مدرسة معززاً بكوادر تتقن وسائل السايبر ومطّلعة على منصاته وتقنياته المتطورة يومياً، فيكون بوسعها أن تدخل طرفاً في العلاقة بين المدرس والمتلقي، وستكون بلا شك طرفاً فاعلاً ومؤثراً. مركز الكتابة المشار إليه سيكفل تعيين حقوق المؤلفين، ويفرز جهد الطالب وما قدمه في نصه، عن المنتزع من الأنترنت، وسيكون من المناسب أن يفرض على التلميذ أو الطالب الإشارة إلكترونياً إلى المصدر الذي اقتبس منه، من خلال هايبر لنك أو فيديو أو حتى بوست فيسبوك. هذا بالطبع يعني توسيعاً كبيراً لجهود المنظومة التعليمية، ولكنه توسيع لا مفر منها، فالمدارس في زمن كورونا، باتت تحتظر وأثبت التعليم الإلكتروني أنه أسلوب المقطع الزمني المقبل مهما كان عليه الحال ولابد للعملية التعليمية أن تتأقلم مع التطورات التي يفرضها العالم الرقمي.

التلميذ أو الطالب الذي يتعلم من خلال المدرسة الإلكترونية، يملك غالباً منصاته، عبر بلوغره الشخصي أو حسابه على فيسبوك وانستغرام وسناب تشات وما شابه، وهو يتفاعل مع العالم الرقمي خلال اليوم بشكل متزايد، وهذا يحتم على المعلم والمدرس الإلمام بما تفعله هذه المنصات، أو على الأقل تعلمه كيفية الوصول إلى هذه المنصات واستعراض نتاجها.

أخطاء الأملاء والنحو الشائعة يتكفل اليوم بحلّها نظام المصحح الإلكتروني للكتابةالموجود في كل اللغات، وهذا يعفي المتلقي والطالب والتلميذ من إتقان هذه المهارات، لكنّه يبقى محتاجاً إلى اتقان مهارات كل لغة يتقنها، وعليه أن يوسّع مستويات معرفته باللغات السائدة، وما كان يبدو قبل خمسين سنة أتقاناً لمستوى اللغة الثانية والثالثة والرابعة التي يملكها الأنسان بات اليوم معلومة مضافة توفرها المصححات اللغوية وحلوها السريعة، لكنّ المتعلم يجب أن يملك حدا أدنى من المعرفة للغة كي يتمكن من المناورة.

الكتابة الإلكترونية تطرح الأسئلة التالية:

*كيف يتفاعل الناس مع النوافذ المتوائمة والمختلفة والمتناصّة في مساحة الشاشة الرقمية المفتوحة أمامهم؟

*ما مستوى المعرفة المطلوب ممن يتلقى النص الإلكتروني وتشعباته المعرفية الشاسعة؟

*هل بوسع مُصممي النوافذ أن يطوروها بما يناسب تنوّع المتلقين، كل حسب قدرته؟

*ما شكل المعرفة التي نصل إليها عبر هذا الرفد المفعم بالمعلومات والمتصل بالتحديث كل دقيقة عبر النت الذي يتجاوز البعد الأفقي “الجغرافيا” والبعد العمودي “التاريخ”؟

بون- صيف 2020 / عام كورونا