23 ديسمبر، 2024 2:30 م

الكبر والشيخوخة بين علم النفس والسياسة والدين !! 

الكبر والشيخوخة بين علم النفس والسياسة والدين !! 

” ذهب الشباب فما له من عودة     وأتى المشيب فأين منه المهرب “
الإمام علي بن أبي طالب(ع)

من المسلم به عموما أن قدرات الإنسان العقلية لا حدود لها في مجالات العطاء والإبداع المختلفة, الاجتماعية, والثقافية, والاقتصادية,  والسياسية, والفكرية, والإدارية, والتربوية والتعليمية, وكذلك في ميادين التقدم الصناعي والتقني والمعلوماتي وسائر مناحي المعارف والعلوم والمهن المختلفة. وتتبلور هذه المقدرة والقدرات والإمكانيات عبر التراكم والاستفاضة بموضوع الاهتمام والتركيز فيه وتكريس الوقت اللازم له والتهذيب المستمر لورشة العمل فيه !!!.

وأن إبداعات البشرية في المجالات كافة جاءت على خلفية توافر ميكانزم قوامه بعدين أساسين, هما البعد العقلي الفسيولوجي الذي يستند إلى البنية التشريحية الدماغية والجسمية المتطورة لدى الإنسان, والبعد الاجتماعي والثقافي والظروف البيئية المصاحبة التي تقرر صيرورة الانجاز ومحتواه, إلا إن الأداء العقلي والفسيولوجي يتأثر كثيرا بسنة النمو وطبيعته المتصاعدة في بدايتها ووصولها سقفا زمنيا ـ عمريا, ثم نزولا تدريجيا بطيئا يبدأ في الكبر ويضعف في الشيخوخة !!!.

وحتى التحسن المستمر للبيئة وظروفها لا يعني بقاء الإنسان وعطائه كما هو الحال في حالات العمر المبكر, لان نوعية الظروف الايجابية لا تلغي سنة النمو وتعود بالكبر والشيخوخة إلى الشباب, بل يمكن القول أن هناك كبر وشيخوخة يختلفان عن غيرهما بالدرجة وليست بالنوع, لان الأداء الإنساني محكم بظروف فسيوعصبية حتى وان تأثر بظروف البيئة المحيطة. ولهذه الأسباب ارتأيت الخوض ببعض من ملامح مرحلة الكبر والشيخوخة من حيث أسبابها ومظاهرها المختلفة في درجاتها استنادا إلى تحسن ظروف العيش والرعاية التي يلقاها الفرد, وخاصة في الشيخوخة, ثم تداعيات ذلك ومخاطره عندما يكون الفرد في هذه المرحلة على رأس قمة هرم الحركات السياسية والاجتماعية والدينية والإدارية, أو يقود أنظمة حكم ودولة بكامل مؤسساتها ويكون هو البوصلة التي تقرر اتجاه المستقبل !!!.

ولفهم ظاهرة الكبر بشكل صحيح علينا تجنب الفهم الخاطئ الذي يرى أن الكبر يبدأ فجأة بعد سنوات الشباب ومنتصف العمر. إلا إن الدراسات العلمية تؤكد بأن عملية الكبر تبدأ في سن مبكرة في الحياة أي ما بين الخامسة عشر والعشرين من العمر, ومن هذه البداية يتواصل الكبر بشكل حثيث وأن لم يكن منظورا حتى تتضح معالمه فجأة في العمر المناسب. والذي يمنع ظهور أعراض التحول في حينها هو تغطية هذه الأعراض بفيض مضلل من نشاط الشباب وحيويته الغامرة لمظاهر التحول.

وتنتظم عدد من النظريات لتفسير ظاهرة الكبر والشيخوخة, منها ما هو بيولوجي, ومنها ما هو نفسي اجتماعي, ومنها ما يجمع بين البيولوجي والنفسي والاجتماعي في نظرة متكاملة لتفسير هذه الظاهرة. ومن هذه النظريات هي النظرية التي ترى أن الكبر مرحلة مقررة من مراحل الحياة ولابد للفرد أن يصلها بتتابع هذه الأدوار وحتى نهايتها الطبيعية. والذي يقرر هذا التتابع في مراحل الحياة ومدته وسرعته هو عامل مقرر أشبه ما يكون أو ما يطلق عليه بالساعة البيولوجية في حياة الإنسان, ويتم ذلك عن طريق الذاكرة التي تحملها مادة ” د ن ا ” في جينات الخلايا, وهذه الذاكرة تقرر وظائف الحيوية للجسم وطول حياتها وطبيعة أدائها بدأ من الطفولة وانتهاء بالشيخوخة وأخيرا توقف الحياة, ولكنها تتأثر بهذا القدر أو ذاك بالظروف البيئية والمعيشية المحيطة.

أما النظرية البيولوجية الثانية في تفسير الكبر والشيخوخة والتي تقترب ببعض من ملامحها من النظرية الثانية, حيث تؤكد بأن ما يحدث في الكبر هو تناقص تدريجي في حيوية الخلايا المكونة للجسم. فالخلايا العصبية وهي الخلايا التي لا تتكاثر بطبيعتها يصيبها التحول والضمور والنقص في الحيوية, أما خلايا الجسم الأخرى والتي من طبيعتها التكاثر فأنها تصل إلى نقطة يتعذر فيها التكاثر فتضمحل بالنهاية بدون تعويض. وهكذا تصل خلايا الجسم إلى عجز واستنزاف لطاقتها وبدون إمكانية التعويض عن ذلك إلا بالانخفاض المناسب لفعاليات الفرد وحيويته. ومن الضروري الإشارة هنا إلى إن الأبحاث العلمية أكدت بأن عمليات النمو تبلغ ذروتها ما بين الخامسة عشر والعشرين من عمر الفرد, وأن الفرد يصبح قادرا في هذه المرحلة على التكاثر, ويتزامن مع هذه المقدرة عملية أخرى من الانحلال تبدأ في كيان الفرد كما يتضح ذلك من التحولات والتغيرات النسيجية والخلوية في الجسم والدماغ. وتتضح هنا المفارقة العجيبة في الإنسان, فهو عند بلوغ مرحلة الذروة في حيويته فأنه يحمل ويجمع في ذاته عوامل البقاء وعوامل الفناء. ومن هذه الذروة يبدأ العد التنازلي لحيوية الإنسان ويبدأ انحداره نحو مصير الفناء بالرغم مما يبدو عليه من مظاهر الحيوية والنشاط والإقبال على الحياة بعنفوان.

وهناك أيضا نظرية المناعة في تفسير الكبر والشيخوخة, فهي ترى أن جهاز المناعة هو بمثابة عملية دفاعية أساسية وضرورية للمحافظة على الحياة, وأن بإمكان هذا الجهاز أن يلعب دورا هاما بصورة ايجابية أو سلبية في عملية الشيخوخة أو إنهاء الحياة. وبتقدم العمر فأن الإمكانيات الدفاعية لهذا الجهاز المناعي تضعف تدريجيا, كما أن خلايا الجسم تصبح متشعبة من حيث سماتها الوراثية مع مرور الزمن وبذلك تصبح مضادة التكوين وتحفز على صنع أجسام مضادة في الجسم مما يؤدي إلى قيام أمراض ذات مناعة ذاتية تسبب ضررا لخلايا الجسم يؤدي إلى إتلافها بدون تعويض.

والى جانب هذه النظريات البيولوجية فهناك الكثير من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والثقافية  والصحية والتي بإمكانها أن تؤثر على الأساس البيولوجي سلبا أو إيجابا وعلى الأداء العام للإنسان وتحفيزه وإطالة أمده نسبيا  أوتلكئه, وكذلك دور العوامل النفسية من  حماس وتحدي وحوافز للبقاء ورفض للعجز والتعامل الايجابي مع المرحلة العمرية وتقبلها ودرجة التواصل الاجتماعي مع البيئة الاجتماعية المحيطة والاتصال بالآخرين, وعلى قدر تشبع الشخصية ايجابيا بهذه العوامل فأنها تدفع عنها عوامل الإحساس بالعجز والقصور وانعدام الكفاءة, إلا إن ذلك لا يعني بكل الأحوال العودة إلى مراحل إنمائية سابقة, لان هناك الكثير من التغيرات التي تطرأ على الفرد في مرحلتي الكبر والشيخوخة ولا يمكن تجاوزها إلا بمقادير تختلف من فرد إلى فرد طبقا للعوامل المذكورة أعلاه مجتمعة !!!!.

ومع تقدم العمر تظهر مجموعة من التغيرات الجسمية والعصبية والنفسية والعقلية والاجتماعية في مرحلتي الكبر والشيخوخة, وان كانت في المرحلة الأولى أكثر تدرجا واقل وضوحا واقرب للحياة من مرحلة الشيخوخة التي قد تظهر بسرعة وتتسم بالعجز أو المرض وتنذره بالفناء. أما ابرز تلك التغيرات في مرحلة الكبر فهي باختصار شديد ما يأتي: على مستوى التغيرات الجسمية حيث تبدو في مظهر الجسم بشكل عام والعلاقة النسبية بين أجزائه وأعضائه, كما تشمل تركيبة وحيوية الجلد والعضلات والمفاصل والعظام والأوعية الدموية والعمليات الوظيفية لأجهزة الجسم كافة بما في ذلك القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والجهاز الجنسي والتناسلي, والتي تبدأ فعاليتها بالهبوط تدريجيا مع تقدم العمر. وقد يكون هناك نشاطا في هذه الأجهزة وحيوية كبيرة إلا إن ذلك لا يعني عدم وجود العد التنازلي, بل قد يكون على حساب أجهزة أخرى ومسببا عموما الإجهاد لها.

أما بالنسبة للتغيرات العصبية فتبدو في صورة الانخفاض والنقص التدريجي في قوة الإرجاع والاستجابات العصبية, كما أنها تشمل العديد من العمليات العصبية التي تعتمد على حيوية الدماغ مثل الذاكرة والتعلم واكتساب الخبرات والمهارات الجديدة. ومع أن الفرد يبدو أكثر نضجا مع تقدم العمر, إلا إن ذلك لا يعني تطورا موازيا في الحيوية العصبية بقدر ما يعني الاستفادة من التجربة المتراكمة لدى الفرد.

وبخصوص التغيرات النفسية في الكبر فأنها تتسم بصفات التصلب النفسي مما لا يمكن الفرد من التكيف الكافي لمتغيرات الحياة وظروفها وخاصة المستجدة منها وغير المألوفة منها, ويتزامن ذلك هبوط في درجة الحماس وفي الطموح والاندفاع نحو تحقيق الأهداف التي تبناها الفرد في مراحل سابقة. كما يحصل تضيق وتقليص في مجال اهتمامات الفرد لما يجري حوله, ويصاحب ذلك تحديد متزايد في اتصالات الفرد الشخصية وتتركز هذه الاتصالات على قلة من الناس ممن ألفهم سابقا, كما يتركز اهتمام الفرد بشكل متزايد على ذاته أو ما يتصل به مباشرة ويبدو عليه ما يدلل على تناقص في المرونة في التعامل وفي الاستعداد لفهم وجهات نظر الآخرين. ويميل إلى التمسك بما يتذكره عن زمانه القديم والحنين إليه أكثر من اهتمامه وتقديره لعالمه الحاضر, ولذلك تبدو عليه ملامح العناد في الرأي وصعوبة الاقتناع والتقبل لما هو جديد في الحاضر.

والتغيرات الاجتماعية هي الأخرى تفرض نفسها بشكل أو آخر مع تقدم العمر, وبعض ملامح هذه التغيرات متأتية من عجز الفرد عن المجاراة والتكيف لما تتطلبه الحياة من تغير في نمط علاقاته الاجتماعية, وبعض ذلك تكمن أسبابه في التركيبة الأسرية مع تقدم العمر من تفرق وتشتت بعض أفراد العائلة بسبب الانتقال والوفاة أو الزواج أو بسبب التغير في ظروف العمل أو الموقع الاقتصادي أو ضعف ينتاب بعض الأدوار الاجتماعية التقليدية, وجميع هذه العوامل تسبب تغيرات في نمط الصلات الإنسانية وفي أسلوب الحياة وفي تصور الفرد لمكانته الاجتماعية وفي تقديره لنفسه, وقد يؤدي ذلك إلى نمط من العزلة الذاتية والاجتماعية, إلا إن ذلك يتأثر كثيرا بالثقافة السائدة ومكانة الكبر فيها وطبيعة الأدوار السابقة وحجمها التي كان يتحملها الفرد.

أما التغيرات العقلية الناتجة بفعل الكبر فهي غير متساوية أو متوازية في جميع القدرات العقلية, فهناك تفاوت في التغير بين قدرة عقلية وأخرى وبين فرد وآخر. وعلى العموم فهناك ثلاثة فئات من أنواع من التغير تحدث في الكبر: يبدو ان العمليات العقلية تتقدم وتتحسن مع تقدم العمر, وفي الفئة الثانية نجد العمليات العقلية التي تصل ذروتها في سن المراهقة وتظل بعد ذلك ثابتة طول الحياة, والفئة الثالثة تشمل العمليات العقلية التي تميل تدريجيا إلى الهبوط والتنازل مع تقدم العمر. ومن العمليات العقلية التي تتقدم وتتحسن مع تقدم العمر هي المعلومات العامة وخزين المفردات التي يعرفها الفرد, والإدراك العام للأشياء إلى غير ذلك من مظاهر تزايد المقدرة على الخلق والإبداع والمساهمات الفكرية. أما العمليات العقلية التي تصل ذروتها في سن المراهقة وتظل ثابتة فهي العمليات المسماة بالقدرات المتبلورة, وهي التي يكتسبها الفرد بالمواظبة والخبرة كالمهارات الفنية والتقنية والمهنية التي تعتمد التجربة والممارسة. أما الفئة الثالثة من العمليات وهي التي تتناقض مع تقدم العمر فهي الذاكرة والمقدرة على التعلم النظري والتفكير المجرد. وعلى العموم فأن حصيلة التغيرات العقلية التي تحدث في الكبر تعتمد على توفر عوامل عدة منها نوعية العمل الذي يمارسه الفرد وما يتطلبه من تجربة وممارسة, أو من ذكاء وتعليم وذاكرة !!!.

والشيخوخة باعتبارها الخاتمة النهائية لحياة الفرد والتي تنتهي بفنائه, فهي تحمل في طياتها تركيزا شديدا لكل مظاهر التغير في المراحل السابقة لها من الكبر. وفد اختلف الكثير في تحديد الفترة العمرية للشيخوخة استنادا إلى تطور مستوى الحياة وتحسن ظروف العيش ومستوى الرعاية الصحية الجسمية والنفسية التي يحظى بها كبار السن. ففي الوقت السابق الذي كان فيه متوسط الحياة ثلاثين عاما, نجده اليوم يمتد إلى الأربعين والخمسين والستين والسبعين وحتى التسعين أو المائة, وأن كان قلة في الفئتين الأخيرتين, ويتفاوت متوسط العمر من مجتمع إلى آخر على الصعيد العالمي استنادا إلى مستوى ونوعية خدمات الرعاية المقدمة لهم. وعلى العموم هناك أطالة في عمر العيش في بلدان العالم المتقدم, والأوربي منه بشكل خاص بالمقارنة مع متوسط العمر بالنسبة لبلدان العالم الآخر, وبشكل خاص العالم الثالث. ولكن أطالة أمد العيش لا يعني بالضرورة أن تكون مصحوبة بتحسن الأداء وانتقاله نقلات نوعية إلى ما هو عليه في السابق, بل يشكل في أحيان كثيرة أطالة متوسط عمر البقاء إلى مشاكل إضافية للدولة والمجتمع من حيث كونهم فئة اتكالية واستهلاكية غير منتجة !!!!.

وقد تكن الشيخوخة خالية من الأمراض الجسمية والعقلية الظاهرة عليها من الناحية الشكلية, إلا إنها تمتلك الاستعداد للإصابة بها بفعل عوامل الضعف العام الكامن فيها. ومن ابرز ما يرافق الشيخوخة من مظاهر مختلفة من الاضطراب النفسي والعقلي والمرض الجسمي هي: هو ضيق أفق الاهتمام بشؤون الحياة بصورة عامة, وتقليص الصلات الاجتماعية وضعف الذاكرة خاصة لما هو جديد من التجارب والأحداث مع صعوبة في تعلم مهارات جديدة والبطء في مزاولة مهارات سبق اكتسابها والنقص في الطموح والحوافز لإدراكها والاتجاه إلى الركون إلى حياة الماضي والى تأمل الذات ومن ذلك الاهتمام والتركيز المفرط على صحة الجسم ووظائفه مما يؤدي الى نشوء الوساوس المرضية وغيرها !!!!.

كما هناك الكثير من العلل والأمراض الجسمية التي تصيب المسنين وهي نتيجة نهائية لعملية تدريجية من التغيرات العضوية المرضية كأمراض القلب والشرايين والكلى والكبد والأمراض السرطانية. ومهما كانت الحالة المرضية فأنها تؤدي إلى إخلال في توازن المسن مع ظروف حياته, ولابد للمرض من يجلب للمسن بعض من شعور بالعجز والقلق والاكتئاب, فالمرض في هذه المرحلة يحمل نذيرا لصاحبه وإحساسا بالفناء.

أما الأعراض العقلية فأنها تأتي في معظم الأحيان بسبب التغير العضوي في خلايا الدماغ وهي تتراوح بشدتها من الدرجات البسيطة للاضطراب في إدراك الأشياء وملاحظتها خاصة في أوقات الغروب أو الليل, إلى حالات أكثر شدة كالنسيان أو فقدان الذاكرة والبصيرة والتحكم في الأشياء والسيطرة على ردود الأفعال العاطفية. ومثل هذه الدرجات الشديدة تكون دلالة على قيام حالة خرف الشيخوخة ” الزهيمر ” أو تأتي بفعل اضطراب عضوي يؤثر في الدماغ أو كليهما, ولعل صور وأعراض الاكتئاب المختلفة هي من أكثرها انتشارا في أوساط المسنين وان اختلفت من مجتمع لآخر !!!.

لقد جاء الخطاب الديني والإسلامي بشكل خاص ممثلا بالقرآن والسنة النبوية في إشارات واضحة ودقيقة لوصف حالة الشيخوخة باعتبارها المرحلة النهائية في حياة الإنسان ومؤكدا حالة العجز العضوي والنفسي فيها وعدم التمكن من الأداء فيها مقارنة بالمراحل العمرية السابقة, وموصيا بنفس الوقت بالرحمة والشفقة والمساعدة للمسنين. وعلى سبيل المثال لا الحصر, فقد ورد في سورة (هود: الآية 72) بالقول ” قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا, إن هذا لشيء عجيب “, وفي هذا النص إشارة واضحة بعدم المقدرة على الإنجاب بغض النظر عن المعجزة الإلهية لتجاوز ذلك. وفي إشارة أخرى للضعف الكامن في الشيخوخة ما ورد في سورة (النحل: الآية 70 ) ” والله خلقكم ثم يتوفاكم, ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا, إن الله عليم قدير “, وما ورد كذلك في سورة ( يس: الآية 68) ” ومن نعمره ننكسه في الخلق, أفلا يعقلون “. وفي إطار الدعم والرحمة والمعاملة الحسنة فقد أوصى النص القرآني في سورة ( الإسراء: الآية 23, 24 ) بالقول ” وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا, إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرا” !!!.

في السنة النبوية إشارات شديدة الوضوح للاهتمام بكبار السن نكتفي منها بحديثين للنبي محمد(ص) أولهما يقول: ” ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه “, وفي حديث آخر يربط بين تقدم العمر والاستغفار الرباني وصولا إلى سن التسعين في القول الآتي: ” ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء, الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ بلغ خمسين سنة لين الله عليه الحساب, فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب, فإذا بلغ سبعين سنة أحبه الله وأحيه أهل السماء, فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته وتجاوز سيئاته, فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله في أرضه, وشفع لأهل بيته “, وهذا الاستغفار والعفو كما ورد يرتبط بوضوح بحالة الضعف المختلفة التي يصلها الإنسان وصولا إلى أرذل العمر !!!!.

وإذا كانت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لا تتعارض في الخطوط العامة مع معطيات علم النفس المعاصر بغض النظر عن التفصيلات في وصف طبيعة الشيخوخة ومظاهرها المرضية المختلفة, فأن ما يتعارض اليوم بوضوح مع الديني والسيكولوجي هو تربع مرجعيات دينية من مختلف الأديان والطوائف وخاصة الإسلامية منها وقد بلغت من العمر شيخوخته, بل البعض منها فقد القدرة على الحركة والإدراك وأصيب بالعجز وتوارى عن الأنظار وهم يفتون بحياة أمة  ومستقبل بلدان ويقررون تصرفات أجيال قادمة ويتدخلون في صياغة شكل الأنظمة السياسية للمستقبل ويقررون وجهة التصرف والسلوك العام ضمن قواعد جامدة عفي عليها الزمن وتحتاج إلى المزيد من الانفتاح على روح العصر وانجازاته واستلهام تجاربه الايجابية. ومما يزيد الطين بله إن هذه المرجعيات محاطة بأسوار من المنتفعين والمستفيدين يستغلون رمزية المرجعية في حياة بعض الناس ليمارسون مختلف الضغوطات غير المرئية على المرجعية وانتزاع الكثير من التصريحات والفتاوى ذات الصلة بمصالح سياسية ضيقة لكيانات طائفية سياسية, إلى جانب استفادتهم المادية والمعنوية مما تمتلكه المرجعيات من إمكانيات مالية وامتيازات مختلفة, ويقومون بمختلف الوسائل الإعلامية والدعائية لترك الانطباع إن ما يصدر من حيثيات في الشأن العام والخاص يصدر مباشرة عن لسان المرجعية التي لا تزال نشطة كل النشاط ومتابعة بشكل دقيق, خارج إطار حركة الزمان والسنة الإلهية, لكل ما يجري في الساحات السياسية والاجتماعية, وكل ما تقادم الزمن بها كانت أكثر مقدرة على العطاء والإبداع والإفتاء. ولعل الأخطر في هذا كله هو استمالة المرجعيات الدينية من قبل دول واحتواء فتواها لمصالح سياسية وعالمية كبرى, فأخذت تفتي بجواز التدخل الخارجي في حالة, وعدم جوازه في حالة وحسب مصلحة الدولة المضيفة للمرجعية, وكذلك الفتاوى الضمنية بإثارة النعرة والصراعات الطائفية والدينية الداخلية والخارجية. ولعل نموذج ( القرضاوي ـ قطر ) من أكثر النماذج صلافة وتعبيرا عن خرف الشيخوخة واستغلالها في السياسية والدين !!!!!.

أما الشيخوخة في السياسة فلها أوجاعها الخاصة وأثارها المرضية المزمنة, ولعل ابرز ما يميزها في عالمنا العربي هو توقف الزمن منذ عقود لبناء دولة المؤسسات والديمقراطية والحريات العامة, فقد ارتأت زعاماتها الشائخة أن تبقى الحياة كما هي قبل أكثر من سبعين عاما, وأن تصلب شرايين قائد الضرورة التاريخي أدى إلى تصلب شرايين الدولة ومؤسساتها وتوقف عمليات البناء وإعادة الحياة على أسس عصرية. ومن بدأ من القيادات التاريخية شاب معطاء في ظروف النشأة الأولى للدولة الوطنية أو لحركة تحرر وطني أو للحزب سياسي, تحول مع تقادم الزمن إلى دكتاتور دولة قمعية بوليسية قوام سياستها تكريس التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتشديد قبضة الإرهاب والقمع السياسي وتدني مستويات العيش الكريم, كما رأى القائد التاريخي في شخصه ملخص للخبرة والعطاء والوطنية على مختلف المستويات ولا يمكن بدونه أن يستقيم الحزب والدولة. ولعل من المفارقات في عالمنا العربي أن أقلية من  كبار السن والشيوخ يحكمون منطقة من أكثر مناطق العالم تتسم باليافعية والشباب, حيث تصل نسبة الشباب فيه إلى 60% من مجموع سكانه والتي تقع أعمارهم تحت أل 25 سنة, و أن عدد الفقراء فيه في تزايد مستمر حيث يصل إلى أكثر من 35 مليون مواطن عربي, وعلى عتبة الفقر يقف أكثر من 7 مليون مواطن, إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة فيه وهو الأعلى في العالم حيث يصل إلى تقريبا 15% . وإذا اضطر الشيخ السياسي بفعل عوامل صحية قاهرة إلى التنازل عن العرش فأنه يعمل على التهيئة لتسليم مقاليد الحكم وقيادة الحزب إلى احد أبناء العائلة المالكة لتبدأ دورة جديدة من الشيخوخة السياسية بواجهات شابة تقليديا ولكنها تشربت الشيخوخة من الأب القائد !!!!.

واليوم إذ تتهاوى النظم العربية بفعل عوامل شيخوختها المحتمة, فمن لم يسقط اليوم سيسقط غدا بفعل الهبات الجماهيرية القائمة على خلفية عوامل الفقر والحرمان وانعدام الحريات والديمقراطية, وقد تعم فوضى عارمة في المنطقة وقد بدأت ملامحها في الأفق مرئيا بسبب من غياب القوى التي تمسك زمام التغير وبوصلته, والأمثلة الحاضرة دليل على ذلك, فقد سقطت الشيخوخة السياسة وأحلت مكانها شيخوخة دينية ستؤسس لنظم شائخة أخرى وقد تكون الأخطر من سابقتها على مستقبل مواطنيها بشكل عام وعلى شبابها بشكل خاص وستهدد النسيج الاجتماعي والثقافي والهوية الوطنية بالفناء !!!!!.