23 ديسمبر، 2024 1:54 ص

الكاظمي.. أنياب الفساد والثورة الكامنة

الكاظمي.. أنياب الفساد والثورة الكامنة

بضعة رجال إغتالوا الدولة العراقية الجديدة بدم بارد. أولئك الذين تسلقوا خلسة من الثقوب التي خلفتها رصاصات الحروب في جسد العراق تحت أنظار العالم، بل تحت تراتيل سفراء الشيطان الذين يتبخترون على هيئة عمائم مختلفة الالوان أو طرابيش وكوفيات ملونة.
الأسئلة أوسع مساحة من نافذة الأمل. مئات مليارات الدولارات الضائعة لم تستوقف المواطن حين كانت الرواتب البسيطة تدخل جيبه كل شهر.
الان، اللعبة انتهت. وباء كورونا تسلل من الشباك الايراني، والانهيار الاقتصادي طرق على الباب بقوة. ثمة من يتحدث عن الحرمل كعلاج للوباء. لكن لا أحد يتحدث عن كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية ولو بأقل الخسائر. كل الأنظار تتجه نحو بورصة النفط العالمية، علّ الاسعار تتنفس قليلا وتسد قيمة الكميات المصدرة فاتورة الرواتب الشهرية دون اللجوء الى الاستدانة أو السحب من الاحتياطي النقدي أو طباعة العملة دون غطاء، وفي الحالات الثلاث، ثمة خطوة واسعة نحو الكارثة.
وسط هذه الفوضى، تختفي تلك البضعة من الرجال، وهم زعماء الاحزاب السياسية المهيمنة على المشهد السياسي منذ عام 2005. هناك من يهمس ان هذا الاختفاء قسري نتيجة الخوف من فعل عسكري أمريكي قد يقلب الطاولة على رؤوسهم بسبب ابتعادهم عن محور واشنطن التي توظف فشلهم وفسادهم طيلة سنوات حكمهم لتأليب الشارع العراقي المعبأ أصلا ضد جميع الاحزاب المشاركة في العملية السياسية التي يتهمها بتخريب البلد نتيجة سياساتها المعتمدة على سرقة المال العام وترسيخ ثقافة الفساد الاداري والمالي التي أصبحت بديلا عن مؤسسات الدولة، فيما يتحدث البعض عن حالة فصام تعانيها تلك الاحزاب مع الواقع السياسي، وضعتهم تحت وصاية دول الجوار الى حد انها لم تعد تعي خطورة المرحلة التي تعصف بالعراق.
ثنائية الحجر المنزلي والجوع تتفاعل في الشارع العراقي. المخاوف من إنهيار جبل الجليد الذي سيكشف عن فاجعة أرقام المصابين بالوباء لا تحد منها تطمينات خلية الازمة في ظل إنعدام كامل للثقة بين المواطن والسلطات. الجوع يوغل في غرز أنيابه داخل جسد العوائل العراقية المتاخمة لخط الفقر والتي تعتاش على ما تكسبه من عملها اليومي غير المنتظم، مما ينذر بثورة شعبية عارمة لا تؤجلها إجراءات فرض الحجر(الصحي) ولا تجهضها سياسات الطرف الثالث المعتمدة على القناص والهراوات والسكاكين.
الطبقة السياسية مبتعدة عن المشهد الاجتماعي، لكنها متمسكة بالحفاظ على ما تبقى من أنقاض العملية السياسية المتهاوية. حالة الفصام تلك رسخت تبعية القوى السياسية لعواصم اقليمية ودولية، وفضحت بشكل أكثر وضوحا ان زعماء الاحزاب في العراق لا يرتقون الى أخلاقيات زعماء المافيا في العالم.
خارج حسابات الأرباح والخسائر والانتصارات والهزائم، لم يتمكن خليفة قاسم سليماني، اسماعيل قآني خلال زيارته الاخيرة للعراق من وقف اطلاق النار بين الكتل الشيعية، ولم يكن أمامه وهو يتخبط وسط فوضى الصراع على الزعامة بين تلك الكتل سوى اللجوء الى دبلوماسية الكاتيوشا والركون الى الفصائل المسلحة، ولا سيما الولائية منها، لتنفيذ الأجندة الايرانية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية على الأرض العراقية من بوابة محاولة فرض الهيمنة على القرار السياسي بلغة البارود والنار.
وسط تلك الاجواء، انفض مولد تكليف خليفة عادل عبدالمهدي رئيس الحكومة المستقيل، لتشكيل الحكومة الجديدة التي تعسرت ولادتها أكثر من خمسة اشهر عجاف، استقال عبد المهدي في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2019، شهدت تكليف وانسحاب محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي على التوالي، لتنتهي عند منح الثقة لحكومة رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي باغلبية قسرية لمختلف الكتل السياسية، شيعية وسنية وكردية.
ثمة مؤشر على ان حكومة الكاظمي هي بداية أفول وهزيمة مشروع الاسلام السياسي، ولاسيما الشيعي، في العراق. لا يعني ذلك باية حال انه بالمقابل شروعا ببناء مشروع الحداثة ودولة المؤسسات واطلاق الحريات الخاصة والعامة وتفعيل نظام العدالة الاجتماعية، إذ ان هذه الحكومة هي ثمرة تنسيق غامض بين واشنطن وطهران، على الرغم من الرفض الذي كان معلنا لتكليف الكاظمي من قبل كتل شيعية مؤثرة مثل كتلة الفتح بقيادة هادي العامري ودولة القانون بقيادة نوري المالكي، بالاضافة الى عدة فصائل مسلحة موالية لايران في مقدمتها كتائب حزب الله التي هددت بحرق العراق إن تم تكليف الكاظمي بتشكيل الحكومة، على خلفية اتهامه بالتعاون مع القوات الامريكية في عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي بالقرب من مطار بغداد الدولي.
ظهر الكاظمي في حفل التكليف بصورة الثعلب الذي عليه ان يلعب وسط غابة من الذئاب. السياسيون الشيعة لازالوا يحملون على صدورهم نياشين النضال السياحي التي حصلوا عليها في حقبة المعارضة لنظام صدام حسين. انهم يتربصون عند الباب خوفا من عودة النظام السابق مجددا للحكم وحرمانهم من هذا “النعيم” الذي يتمرغون فيه. السياسيون السنة ليسوا باحسن حال، وهم يتنقلون بين أحضان عواصم الجوار. أما السياسيون الكرد فانهم يجيدون تبادل الادوار بين المركز والاقليم بامتياز واضح. الاشتغال على هدف بعيد لا يبدو منظورا الان هو ديدنهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والثقافي ..أيضا.
الدولة، أو الدويلة، الكردية حاضرة في كل خطوة. ومن يعزز خطوات الوصول اليها يحظى بدعم الامبراطورية العائلية بغض النظر عن مدى صلاحياته لقيادة أعلى سلطة تنفيذية في العراق.
التعويل، كل التعويل خلال الفترة المقبلة على لحظة اشتباك غير محسومة بين مشروع الدولة الاسلامية ومشروع الدولة المدنية في العراق. ثمة في الافق ملامح ولادة تجمعات ليبرالية قد ترث مخلفات النظام السابق شبه الاشتراكي، والنظام الاسلامي المعتمد على الاقتصاد الريعي الذي يدفع به الى ما يشبه الاشتراكية الاجتماعية. هذا الاشتباك الذي يأتي في لحظة فكرية دولية ملتبسه قد يشكل قفزة فكرية، وبالتالي سياسية، نحو أفق جديد تعززه مخرجات الاحتجاجات الشعبية التي أنتجت جيلا جديدا يحدس أهمية هوية المواطنة على حساب هويات فرعية عديدة، قومية ودينية وطائفية، رسختها العملية السياسية خلال السبعة عشر عاما الماضية، وهي عمر النظام الذي تشكل بعد إحتلال العراق في نيسان 2003.