23 ديسمبر، 2024 6:28 م

الكائن والممكن في قراءة الشعر العربي المعاصر

الكائن والممكن في قراءة الشعر العربي المعاصر

بداية، نوه مؤلف الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، الى انه استعمل كلمة جمود مقابل كلمة أزمة التي ترد كثيراً في توصيفات النقاد والشعراء على حد سواء، حين يتحدثون بصدق عن وضع الشعر العربي المعاصر الذي يعيش هذه الحالة غير المسبوقة، نظراً الى ان نقد الشعر ونظريته وقراءته عموماً تبدو في حال من التوازي السلبي حيناً والتباعد اللامبرر مع هذا الشعر حيناً آخر.
لا مفر من الاعتراف بصعوبة الخوض في وضع القصيدة العربية المعاصرة مع الاقرار بان هذه الصعوبة ترجع الى البعد السجالي لموضوع الحداثة في هذه القصيدة. وثمة مواقف نظرية منفصلة عن السياق الثقافي العربي العام تتصل بممكن القصيدة العربية المعاصرة. بيد ان تلك المواقف في انفصالها هذا تظل ملتبسة وغير واضحة، لانها تجد صعوبة في متابعة ما تعد به من آفاق جمالية على مستوى القصيدة. وبناء عليه فان تلك الكتابات التي نذرت نفسها للتبشير بحداثة الشعر لم تستطع تحقيق الحد الادنى مما وعدت به، يتجلى هذا التناقض في عدم توازي النظرية مع تحققاتها الفعلية على المستوى الابداعي.
فثمة نوع من الاشباع النظري والابداعي في المشهد العربي لكنه الاشباع الموصل الى الترهل، والترهل يوصل الى الكسل وصعوبة الحركة. ولا يكفي القول ان الشعر العربي المعاصر يعيش ازمة فنية ورؤيوية، كما لا يكفي الحديث عن ازمة النقد بارتباط بأزمة الشعر. وتظل مرحلة التشخيص بحاجة الى ان تتجاوز الى مرحلة توصيف الحل، وهو ما لم يحصل حتى الان مع الاسف، هذا، اذا استثنينا محاولات متواضعة وخجولة في آن واحد لا تتجاوز المقال الصحافي او الحوار العابر او بعض الدراسات الاكاديمية التي ظلت حبيسة رفوف المكتبات الجامعية من دون ان تصل الى القطاع العريض من قراء الشعر ونقده.
يعيش الشعر العربي المعاصر أزمة غير مسبوقة تعبر عن نفسها بعلاقة بين القراءة والشعر بما فيها القراءة النقدية والنظرية  يحكمها التوازي السلبي حيناً والتباعد اللامبرر مع هذا الشعر حيناً آخر، كما تعبر عن نفسها بالتناقض الحاصل بين طموح النظرية الشعرية الحداثية وبين ما انتجته القصيدة المعاصرة عملياً، وبالتالي ان استمرار القصيدة الشعرية العربية رهن بخروجها من الازمة التي تعانيها الآن، وهذا الخروج هو بدوره رهن بضرورة توافر نشاطين مرتبطين بطرفي العلاقة الشعرية، أي الشعر والقراءة، لذلك لا تتوقف الجمالية المطلوب توافرها على الشعر فقط، بل هي جمالية تتعلق بالشاعر والقارئ في آن معاً تحكمها رؤية مشتركة تنتبه الى البعد الاجتماعي للظاهرة الشعرية من جهة والى اهمية الاعتراف بالقيمة الوجودية للشاعر من جهة اخرى.
المؤلف، قدم قراءة تحليلية لازمة الشعر العربي المعاصر غايتها تعيين مواطن الخلل في علاقة الشاعر بقارئه على مستوى نظرية الشعر، كما على مستوى الكتابة الشعرية، متضمناً وقفات متعددة مع نماذج شعرية لنخبة من الشعراء العرب المعاصرين.
وتحدث المؤلف ايضاً عن مبدأ ظهور الشعر، وعن الدوافع الاجتماعية والتربوية والتعليمية والتمجيدية التي ادت الى ميلاد الظاهرة الشعرية عند العرب، بحيث يبدو الامر مرتبطاً بالحاجة الى نوع من التخليد الرمزي لمكارم الاخلاق وطيب الاعراق… بهذا المعنى تعبر الظاهرة الشعرية العربية عن عمق اجتماعي وحضاري لا يقل اهمية عما تمتلكه هذه الظاهرة من قيمة ادبية.
في تاريخ شعرنا الحديث على قصره، محطات وتحولات وحساسيات ومقولة تضخم التنظير التلقيني مقابل ضآلة الوصول الابداعي، وهي صحيحة الى أبعد الحدود. فقد ساهم منظروا الحداثة في تغذية تلك الاوهام بتأكيدهم فكرتين تفض احدهما الى الآخرى: اولاهما- مقولة التطابق الرؤيوي بين الشعر العربي المعاصر والشعر الغربي. والثانية- بالنتيجة، القول بامكان اخضاع القصيدة العربية المعاصرة تبعاً لمقولة التطابق لأدوات المناهج النقدية الغربية وتصوراتها المفهومية على اختلافها.
سيغدو من الطبيعي ان تتم استعادة مقولات الآخر وادواته بحيث تم تغييب كل مجهود نقدي لا يتخذ الآخر اساساً لاستلهام ادواته المنهجية وتصوراته النقدية.
كما تم التعتيم على كل منهج شعري يختلف عن مقومات الشعر الغربي. وهي المحاولات التي تبرر الحديث عن تجاوز الماضي وأطره ونظامه لمصلحة الارتماء في حضن الآخر الذي اصبحت الحداثة مرادفة له اجراء وتصوراً.
لقد مارس الشعراء على مستوى الابداع كشوفاتهم، فاستكشفوا حقل الايقاع واستبدلوا السطر الشعري بالبيت، واعتمدوا الانزياح والرمز فدخلت القصيدة معهم الى نفق الغموض. ثم ضاعت الرؤية وتشابهت السبل. وحيث سقط في ايدي الشعراء حولوا عجزهم الى تهم يرمى بها القارئ الذي لم يطور ادواته وثقافته من حيث فعل الشعراء، فتقدموا وظل هو في مكانه يعيش على ماضٍ شعري لم يعد له في حاضر القصيدة حضور، وان كان هذا الماضي الشخص الذي تم رفضه في وقت من الاوقات هو نفسه الذي سيرجع اليه الشعراء في محطات شتى من مرحلة استغلال الاسطورة الى الاقبال على القرآن الكريم والسير والقصص الشعبية العربية، ومن ثم الى استغلال امكانيات الرمز الصوفي.. وهو ما يوضح ان حدود الكشف على مستوى المتخيل الشعري تخصيصا لم تكد تتخطى اطر التراث ونماذجه في أسوأ الاحوال او أطر الاخر وادواته ومفاهيمه في احسنها، وذلك تأويل ما عناه المؤلف في ان الشعر والقراءة معاً قد غدى احدهما اوهام الآخر…
اذا كان من دلالة لافتتاح الحديث في هذا الكتاب المتواضع عن الخاصية الاجتماعية للظاهرة الشعرية، فهي الرغبة في الانتصار لسلطة القراءة امام تمرد سلطة الشاعر. انها الرغبة اذاً حين تمتزج بالحب الفطري الذي نمتلكه لشعرنا العربي قديمه وحديثه… وبدافع من هذا الحب نستشعر حجم الالم الذي يدمي القلب امام المشهد الغريب الذي تتجلى فيه القصيدة العربية المعاصرة، فبين التجريب والانكفاء على الذات وتضخم المنتج التنظيري والتلقيني، واغتراب النظرية الشعرية يظل القارئ موزعا بين حالين: حال المقبل على بحر لجيِّ من التجارب الابداعية والتنظيرية بحيث تتشابه السبل وتستأسد الافاق، وتغيم الرؤية، فيقنع من مغامرته بالاعتراف بالعجز وايثار الدعة.
وقد يختار ثأني الحالين، فيدع فكرة الخوض في متاهات القصيدة اصلاً، ويُعرض اعراض الزاهد المتشوف الى ما يزهد فيه، وبين الحالين يظل وضع القصيدة المعاصرة شاذاً عن المألوف من دور الابداع كظاهرة اجتماعية.
لم تكن نظرية الشعر العربي المعاصر معبرة عن تطلعات الشعر العربي في خصوصياته الثقافية، كما لم تكن اصيلة متجذرة في تربة هذا الشعر وعبقه وتوهجه تماماً، كما ان تلك المحاولات لم تنتبه الى خلفية المشهد القرائي للقصيدة العربي ولا الى خليفة المشهد الثقافي العربي عموماً، فحدث الجفاء بين القارئ والشاعر، وانتهت القصيدة العربية الى عزلة ثقافية موحشة ما زالت سادرة فيها الى الآن.
حاولت تلك الكتابات ممارسة نوع من التمويه الثقافي يروم التقليل من اهمية النشاط القرائي او تسفيهه في احسن الاحوال. وكانت مقولة القارئ الخلاق مدخلاً للحديث عن القارئ الذي يعيد انتاج النص فيما هو يقرأه. مقابل هذه الصورة سوف ترسم صورة الشاعر الرائي الذي يروم الكشف عن عالم يظل بحاجة الى الكشف، وستتحمل كلمات ابي تمام (لماذا لا تفهم ما يقال؟) اذئً  كثيراً، وستتحول الى سيف مسلط على رقاب القراء، وبدلاً من ان يفتتح الشاعر حواراً ثقافياً وجمالياً مع قرائه، سوف يفر الى سادية مخيفة يهش بها كل راغب في مساءلة الاسس الجمالية الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة.
في رأيي، ان قارئ الشعر العربي المعاصر، تعرض لقمع واقصاء مقصودين لمصلحة اختيار فني يستهدف ممارسة ابداعية تحتفي بذاتها في حدود الانغلاق الجمالي والدلالي، الامر الذي ادى الى ارتكاس القصيدة الشعرية العربية وفي احسن الاحوال تمركزها حول ذاتها، تجلى الامر في انفصالها عن سيرورة الواقع وعن خلفيته الثقافية في بعض الاحيان.
لا شك في ان هذا الاختيار كانت له عدة نتائج ليس اقلها انبثاق ظواهر فنية تمثلت بالغموض وتشتت المعنى على المستوى الدلالي او ظواهر نقدية تجلت بظاهرة الشعراء النقاد او تكثيف القراءة او ترييضها على مستوى اللغة الواصفة او طبيعة منتجها. وهنا، يجب ان نتوقف مع ذلك التلازم الحاصل بين الظواهر الجمالية الفنية كالغموض تمثيلاً وبين ظاهرة الشعراء النقاد بما يعبر عن وجه من اوجه ازمة القصيدة العربية المعاصرة. اقصد تصدي الشعراء لقراءة النص الشعري في سياق رسم ملامح شخصية يتداخل فيها المبدع بالقارئ.
ما حاوله المؤلف ان يقدمه في هذا البحث، هو رؤية جديدة الى علاقة الشاعر بالقارئ في الشعر العربي المعاصر، تستمد تلك الرؤية نورها مما تنص عليه شعريتنا العربية القديمة في باب علاقة الشعر بالنقد، وما تشير اليه كتب الادب والشعر من اتجاهات قرائية تراوح بين الرواية والنقد والمطالعة والشرح، والتأديب.. وكلها وظائف ترسخ اهمية الفعل القرائي في تصور شعريتنا العربية القديمة.
هذا الى ان حاول المؤلف ان يؤكده في تحليله لنماذج من المتن الشعري العربي المعاصر، هو ضرورة استعادة الشاعر لدوره الحضاري والاجتماعي وقد حاول ان يبين من خلال مناقشة موضوع علاقة الشعر بالقصة.
ان الشاعر يمكنه ان يصل الذاكرة بحاضرها، كما يمكنه ان ينفتح على البعد الانساني لموضوعه، من خلال اقامة ترابطات تاريخية وثقافية متعددة…
وعموما، فان ما قدمه المؤلف في هذا البحث، هو ما يمكن ان اعده محاولة في اتجاه الانتصار لفعل القراءة امام تمدد سلطة الشعر في المنتج التنظيري الحداثي، ليس الموقف بحاجة لا معنى لها سوى الرغبة في فعالية الشعراء ومدافعتهم عن مضمار الشعر ولكنها الحاجة الى استعادة بحد الشعر العربي حين كان في يوم من الايام ديوان العرب.
• الكتاب
الكائن والممكن في قراءة الشعر العربي المعاصر، تأليف : حميد الشابي، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2013، 350 صفحة.

[email protected]