23 ديسمبر، 2024 4:22 م

القيم الثقافية والفاعل الاجتماعي : دور المثقف في درء العنف

القيم الثقافية والفاعل الاجتماعي : دور المثقف في درء العنف

غالبا”ما يلجأ البعض ممن يمتهنون العمل الفكري ، إلى تطعيم مسارد مقالاتهم ونصوص كتاباتهم بمفردات تبدو متناقضة ، لا بل متعارضة ومتخالفة ، ايمانا”من ذلك البعض بأن هذه الطريقة الالتباسية قمينة بزيادة وقع التأثير المعرفي ومضاعفة فاعليته في وعي القارئ ، وذلك لتحفيز إدراكه واستثارة مخياله وتنشيط ذاكرته ، الشيء الذي سوغ لهم تحميل تلك المفردات معاني ما كانت تتمنى أن تقصدها ، ودلالات ما أرادت لها أن تكون . فقد جرى ، على سبيل المثال لا الحصر ، ترحيل / إقحام مفهوم الثقافة إلى حقول اجتماعية أخرى ، بعيدة كل البعد عن مضمون الثقافة ومقاصدها ؛ كالعنف والتخلف والكراهية والإقصاء ، فأصبحنا نكتب ونقرأ : ثقافة العنف ، أو ثقافة التخلف ، أو ثقافة الكراهية ، أو ثقافة الإقصاء وقس على ذلك . وإذا ما علمنا بأن الثقافة قد اقترنت على الدوام بما يوحي بنضوج مقومات الفكر ، وثراء شروط المعرفة ، وحدة عناصر الوعي ، ورهافة مشاعر الألفة ، ودماثة معطيات الخلق ، وتراكم حكمة التعقل ، أدركنا من فورنا كم يكون سهلا”الوقوع في محظور الطعن بالأفكار والتشنيع بالمفاهيم والقدح بالأشخاص والازدراء بالنظريات ، لا لشيء إلاّ لأننا نجهل التعامل مع طبيعة المفاهيم ونخفق في التعبير عن دلالاتها الفعلية والرمزية . لاسيما وان (( ندرة المفاهيم – كما لاحظ الباحث المغاربي (إدريس هاني) – وشحة التفكير المفاهيمي ، وكذلك ظاهرة التوظيف الخاطئ والمزيف للمفاهيم الكبرى ، مما جعلها تنتج لدينا ما لا تنتج في مجالها الذي تمتلك فيه سلطة حقيقية . إنها تنتج حيرة الفكر العربي ونقائضه ، مما يجعلها ممارسة إيديولوجية زائفة بامتياز )) . وعلى أساس ذلك فان من الضرورة بمكان ، فهم واستيعاب حقيقة إن المرء إما أن يكون مثقفا”(منتج أفكار وصائغ تصورات ومجسد قيم) أو لا يكون بالمطلق . إذ لا توجد ، على صعيد هذه المسألة ، منطقة رمادية بين هذا وذاك ، ولا مجال ، في إطار هذه القضية ، لإمكانية خلط الملامح وتضييع المعالم ودمج الخصائص . مما يستلزم أن نستعين ، عند الحاجة للتصنيف أو التوصيف ، بالكثير من الصفات والعديد من السمات التي تبيح لنا نعت (س) من الناس بكونه مثقف أو متعلم أو بالعكس جاهل أو أمي ، وإسباغ الألقاب / من ثم ، على كل واحد منهم بحسب موقعه في النسق الاجتماعي ، ومستوى إسهامه في مدماك البناء المعرفي . من هنا فان الثقافة لا تضفي فقط على حاملها هالة من الاعتبار الشخصي والهيبة القيمية ، للدلالة على أهمية مكانته الاجتماعية وجلال وظيفته المعرفية فحسب ، وإنما ترشحه لأن يمارس دوره السياسي بفاعلية مضاعفة ومسؤولية أكبر ، كلما عزز رصيده من المعارف وراكم خزينه من المعلومات ، باعتبار كونه العنصر الإنساني المؤتمن على قيم المجتمع والصائن لتراثه الروحي ، والموكول إليه مهمة الحفاظ على هويته الحضارية ، والمؤمل منه إيجاد السبل الكفيلة بترصين وحدته الاجتماعية ، والمعمول عليه استنباط الحلول والمعالجات الواقعية التي تساعد على استقراه السياسي ونموه الاقتصادي وتطوره الثقافي . أي إن دور المثقف في المجتمع يحتم عليه أن يحقق رهان الثقافة في مضامين وعيه الذاتي ونمط مسلكه الشخصي ، كشرط مسبق لكي يتحرر من تجاذبات التصنيف السلالي ، ومسبقات التطييف المذهبي ، التي لا بد وأن تتمخض عن افرازات الطغيان السياسي ، ومخلفات الحرمان الاقتصادي ، وتراكمات الامتهان الاجتماعي ، وإسقاطات الإذلال النفسي ، قبل أن يتوجه إلى المجتمع الأوسع مطالبا”مكوناته – أفرادا”وجماعات – بنبذ قيم العدوان ، وقمع مشاعر الكراهية ، واستئصال زؤان العنف ، ويدعوه ، فضلا”عن ذلك ، إلى التمسك بعروة الثوابت الوطنية ، والاعتصام بحبل المسلمات العراقية ، التي من شأنها أن تضمن للجميع حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، كل بحسب هويته الحضارية ، وأصوله الاقوامية ، ومعتقداته الدينية ، وخصائصه المذهبية . ولأجل أن يدرء المثقف ظاهرة العنف عن المجتمع الذي ينتمي إليه ويسعى للحفاظ على أمنه وسلامته ، لا بد ابتداء أن يردعها في نفسه ، وينتزعها من ذهنه ، ويبعدها عن علاقاته ، ويسقطها من خطاباته . بمعنى أن يتطهّر من مخلفات أزمان القسوة التي استحكمت في وعيه ، وان يتحرر من أغلال البغض والكراهية التي استوطنت في وجدانه ، والاّ فانه سيسهم ، من حيث يدري أو لا يدري ، باستمرار دوامات العنف وتصعيد وتائره وزيادة خسائره ، لا في الحقول السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، التي يبدو إن مظاهر العنف تستهدف في العادة مكوناتها فحسب ، وإنما في المضامير الثقافية والفكرية والنفسية أيضا”، بحيث يصعب ، إن لم يكن مستحيلا”، السيطرة على أبعاده والتحكم في مساراته . ومما يؤآخذ عليه رهط من مثقفينا الذين كان النظام السابق يناصبهم العداء ؛ إما لأسباب سياسية ، أو لاختلافات إيديولوجية ، أو لخلافات حزبية ، أو لاعتبارات مصلحية ، بحيث آثر الغالبية منهم انتهاج مبدأ (التقية) ، تجنبا”لمواجهة قمعه وخشية الوقوع في قبضته ، لم يحسنوا التعبير – حين اتيحت لهم فرص التحرر من هواجس الخوف ، وتهيأت أمامهم سبل الخلاص من وطأة المعاناة – عن لواعجهم النفسية الحبيسة ، ولم يجيدوا الإفصاح عن قدراتهم الفكرية المكبوتة ، ولم يوفقوا في إظهار مهاراتهم الإبداعية المهمشة . وهو الأمر الذي وسم حواراتهم مع الآخر بالشطط والانفعال ، لمجرد إن هذا الآخر لا يفكر في الواقع الجديد على طريقتهم الخاصة ، ولا ينظر للأمور المستحدثة على وفق تصورهم الأوحد ، بحيث صار يخشى من انقلاب أطراف المعادلة وتحول ديناميات تفاعلها من حاضرة المجتمع المأزوم وما تنطوي عليه من صراع واحتراب قائم على القتل المجاني والابادة العشوائية ، إلى وعي المثقف المصدوم وما يستتبعه من ترجيح مظاهر العنف الرمزي وتسويغ آلياته الرامية إلى إقصاء الغير واستبعاد الآخر وتهميش المختلف ، وحينذاك لا يكون واردا”بل مؤكدا”سقوط حصانة المثقف ، واختفاء هالة تبجيله ، وأفول نجم اعتباره ، واندثار أمجاد تفرّده . ومما يعيب على بعض (المثقفين) اعتقادهم الساذج ، إن شرط الثقافة فيهم يتحقق ونصابها لديهم يكتمل ، حالما يتوفرون على شيء من المعارف ويحتكمون على قسط من المعلومات ، فضلا”عن تمكنهم من صياغة مضامين وعيهم بحصيلة تلك المعارف والمعلومات ،  على شكل نصوص أدبية أو أعمال فنية أو نتاجات معرفية ، دون أن يراودهم أدنى شكّ بأن لكل ثقافة مجموعة من الشروط المعرفية والقيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية والقناعات الجمالية ، من العبث فصلها عنها والتصرف خلافا”لها . لا بل إن الثقافة ذاتها لا تقوم لها قائمة ما لم تفضي إليها وتقترن بها ، بنفس الضرورة التي يقتضيها اقتران العلة بالمعلول وارتباط السبب بالنتيجة . كما إن الخاصية الجوهرية للمثقف لا تنشئ فيه ولا تقيم حوله ، لمجرد إن خطابه السياسي أو سرده الثقافي يفصح ، بهذا القدر أو ذاك ، عن مفردات تلك الاشتراطات والقناعات ، لأغراض الاستهلاك الظرفي والمزايدة المصلحية ، بقدر ما تؤنسن طباعه وتعقلن وعيه وتشذب سلوكه وتلطف خصاله ، وتغدو بالتالي جزء عضوي من تكوينه النفسي وسجاياه الأخلاقية . ولهذا فمن مضاعفات أزمة الثقافة العراقية في الظرف الراهن ، ملاحظة إن غالبية المنظوين تحت لوائها والناطقين باسمها والحاملين هويتها ، لا يدركون حقيقة إن من أخص مظاهر الوعي الثقافي ، هو إن الاختلاف في الرأي والتباين في وجهات النظر ، لا يسوغ – في مطلق الأحوال والمناسبات – محاولات التهميش ومساعي الإقصاء التي يمارسها البعض ضد البعض الآخر ، ممن يعارضهم في الموقف السياسي أو الاتجاه الفكري ، أو المعتقد الديني . كما وان من يمارس الفعل الثقافي ، سواء أكان إنتاجا”أو تلقيا”، لا يعتقد بأن ظاهرة العنف التي ما فتأت قيمها تتجذر وعواقبها تتعمق ، لا يقتصر تأثيرها على أعمال القتل اليومي ومشاهد التدمير المستمر ، وكأنها باتت ضرورة من ضرورات الحياة العراقية المضطربة فحسب ، بل إن أشكال القمع الفكري والكراهية الطائفية والتعصب القومي والتطرف الديني ، لهي أشدّ أنواع العنف تحطيما”لكيان المجتمع وأعظمها تخريبا”لوعيه وأكثرها فتكا”بعلاقاته . ففيما يعني العنف المادي – بحسب أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور (عبد الغني عماد) – (( الاستخدام غير العادل للقوة بشكل سلوك فعلي أو قولي من قبل فرد أو مجموعة لإلحاق الأذى بالآخرين بدنيا”أو حقوقيا”أو الإضرار بمصالحهم أو أمنهم . أما العنف الرمزي فيستهدف إلحاق الضرر بالموضوع الذي يمارس عليه العنف سيكولوجيا”لجهة خلخلة شعوره بالأمن والطمأنينة ، أو الحط من كرامته واعتباره وتوازنه )) . بمعنى إن العلاقات المبنية على العنف الرمزي ، التي يلجأ إليها البعض ويتعاطى أساليبها دون أن يفطن إلى ذلك – جهلا”فيه أو تجاهلا”منه – مرشحة لأن تترك لها ندوبا”غائرة في بطانة المخيلة الاجتماعية ، وتحفر لها أخاديد عميقة في العقل الجمعي ، سوف يكون من الصعب على الأطراف المنخرطة بتلك العلاقة ، محو آثارها والتخلص من رواسبها والحد من تجلياتها ، بذات القدر من الإيقاع المرحلي الذي يجري من خلاله تسليك المسارات المغلقة ، وتدارك الخلافات القائمة ، وتذليل العقبات الشاخصة ، التي عادة ما تتمخض عن ممارسات العنف المادي وتنجم عن تداعياته المباشرة . ولهذا نعتقد بان مسؤولية إيقاف عمليات إحياء مظاهر العنف بكل أنواعه ومختلف أشكاله وتعدد مستوياته ، فضلا”عن الحيلولة دون اكتمال سيرورة تكوينه ومراحل حضانته في بنى المجتمع ، وبالتالي تعطيل آليات إنتاجه وشل ارادات تسويقه وتسويغه ، تقع بالدرجة الأساس على جدية الدور الرسالي للمثقف العقلاني / التنويري ، الذي طالما أظهر التزامه وتقيده بمراعاة الاحتكام – عند اشتداد الأزمات واستفحال المشاكل – إلى فضائل القواسم الوطنية والاجتماعية المشتركة ، بدلا”من التعكز على رذائل الولاءات الفرعية والانتماءات الجانبية والصلات القرابية والترابطات الأولية ، التي لا بد وان تحمل أصحاب القضية الواحدة والمصير المشترك ، إلى التخندق السياسي والتمترس النفسي والتجييش الديني ، على خلفية استقطاباتهم العرقية والمذهبية والاعتقادية ، من منطلق إن (( كل قضية – كما يشير الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت بول ريكور – ألبست مطلقا”أسطوريا”، تحمل السلاح في الوقت الذي تكتب فيه بأحرف كبيرة )) ، والا فإنهم (= المثقفين) سيفقدون تدريجيا”وظيفتهم النخبوية كموجهين ومرشدين لاتجاهات الرأي العام المحلي ، المستنفر بكل مؤثرات الطقوس المخيالية وبواعث الانفعال الوجداني . ومما له دلالة خاصة في هذا المجال ، وجود قسم من المثقفين ممن يستمرأ هذه اللعبة وتستهويه المشاركة فيها ، لا بوازع من الوعي الحضاري والقيم الثقافية التي يفترض انه استبطن معاييرها واجتاف مثلها ، بغية الحدّ من افرازات هذه الظاهرة الخطيرة والمدمرة على مجمل فعاليات القوى السياسية والعلاقات الاجتماعية والبنى الثقافية والأنساق المعرفية ، بل وجد إن لصوته صدى ولمصالحه هوى ، في إطار هذه الدوامة من الانفلات الأمني والاضطراب الاجتماعي ، للمدى الذي يصل فيه تأثير هوس الجموع وانفعاليتها على بوصلة وعيه وصمام أمان تفكيره ، ما يوازي – إن لم يكن يتخطى بأشواط – تأثيره هو على رأي تلك الجموع المهتاجة واحتواء مواقفها المتشنجة ، بحيث إن (( التربية والقانون – كما يؤكد العالم السوسيولوجي فرانسوا لوجاندر – وضرورات الحياة الاجتماعية ، وحياة الجماعة ، بدل تقلص هذه القوى التي تقود إلى العنف ، فهي على العكس من ذلك ، تدعمها وتستثيرها ، بل وتنسقها ، بحيث تجعل مرحلة العنف شبه محتمة )) . وهنا ينبغي لنا التأكيد على إن واجب المثقف النقدي / المتجدد يتوقف على مراعاته ، قدر الامكان ، تجنب الانعزال عن حركية المجتمع والانفصال عن همومه الآنية وتطلعاته المستقبلية من جهة ، والنأي عن التورط في نزاعاته والانخراط في صراعاته من جهة أخرى . إذ إن كلا الموقفين يفضيان به إلى الوقوع في مهاوي التأدلج الفكري والتحزب السياسي والتعصب القومي ، وهو الأمر الذي ينزع عنه صفة المرجع / المصدر المراد منه والمعول عليه ، تأطير الفاعلية الاجتماعية على وفق الرؤى الوطنية الشاملة ، وبلورة القيم الثقافية العامة على قاعدة التنوع الاقوامي والاختلاف الديني والتعدد المذهبي . فالضرورة المعرفية ، ناهيك عن الموقف الإنساني والالتزام الأخلاقي ، التي ندب المثقف نفسه لها تقتضي – مثلما عبر عن ذلك بحق المفكر السوري برهان غليون – إن (( يمثل وسيطا”حضاريا”أكثر مما يمثل وسيطا”سياسيا”عضويا”أو جمعيا”. وهو يجسد أو ينزع إلى تجسيد نموذج اجتماعي جديد مختلف ومتميز عن النموذج الاجتماعي السائد ، أكثر مما يسعى إلى المشاركة من داخل النظام الاجتماعي القائم في تعديل موازين القوى لصالح الطبقات الاجتماعية التي يتماهى معها أو ينتمي إليها )) . وعلاوة على ذلك ، يفترض به ألاّ يكون وسيطا”سلبيا”يجامل هذا الطرف ويحابي ذاك ، أو أن ينغمس في الدفاع عن قضية هذه الجهة ويتجاهل حقوق الجهات الأخرى – نتحدث هنا عن وضع اجتماعي خاص ونموذج ثقافي محدد – دون أن يضع باعتباره المصلحة الوطنية المشتركة والقضية الاجتماعية العامة . لاسيما حين يكون العنف (سيد الأحكام) في ذهنية القوى المتصارعة والتيارات المتناحرة حول السلطة واخل المجتمع ، بعد إن تخطت تلك القوى والتيارات عتبة المفاهيم السياسية والمعايير الحضارية للصراع والتناحر ، لتنزلق نحو مقاصدها الاثنية ومعانيها الطائفية ، لا بل وحتى خلفياتها الجهوية والمناطقية أيضا”. لكي يتسنى له بعد ذلك أن يمارس ، بحرية كاملة ، دوره البناء ووظيفته التنويرية في نقد التطرف الطائفي وهجاء التعصب الديني ، ومعالجة الاحتقان النفسي واستئصال الحقد الاجتماعي ، وتطهير محتويات المخيال الشعبي والذاكرة التاريخية ، وتقويض أساطير التاريخ وخرافات الجغراقيا ، التي طالما استعبدت عناصر الوعي ، وتحكمت بمقومات الإرادة ، وانتهكت حرمات القيم ، واستباحت معايير الخلق ، وفرطت بحقوق الانسان ، وأهدرت كرامة البشر . 
[email protected]