وردت مفردة؛(مزجاة), مرة واحدة في القرآن الكريم, في سورة يوسف, ومن معانيها اللغوية؛ رديئة, رِثَّةُ, كاسدة, ناقصة, قليلة. وهذه الأوصاف تنطبق على ماعُرف بـ(القيادة القومية) لحزب البعث العربي الاشتراكي, فهم مجموعة من المنظرّين الذين بضاعتهم السفسطة الكلامية, واللغة الخشبية التي كانت رائجة في فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين, وفشلوا فشلاً ذريعاً, كمؤسسة وكأفراد, في الوصول للسلطة في أيٍّ من الأقطار العربية خارج العراق, سواء بانقلاب عسكري أو ثورة شعبية, ولم يتمكنوا من إيصال ولو نائب واحد في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الأردن, والسودان, واليمن, وموريتانيا, ولبنان ,مثلا, رغم الوقت الطويل والأموال الهائلة التي كان يغدقها العراق عليهم. بينما إيران,على سبيل المقارنة الموضوعية, تمكنت من السيطرة على أربع دول عربية بواسطة أتباعها, بكلفة قليلة, وبوقت قصير!!.
هؤلاء كانوا خلال هذه السنوات الطوال, عبئاً ثقيلاً على العراق, وبلا أي مردود يذكر, فقد ساءت علاقاته مع دول عربية عديدة بسببهم, ورغم إنهم مقطوعو الجذور في بلدانهم ولا تأثير لهم أبداً, ومعظمهم ممنوعين من دخولها, وبعضهم محكوم عليه بالاعدام, ولكن الحكومات العربية كانت تتحسّس منهم كثيرا, وتعتبر ذلك, وهذا صحيح, شكلاً من أشكال التدخل العراقي في شؤونها.
في عقد السبعينات وفي الثمانينات بدرجة أقل, كانت أخبارهم ونشاطاتهم تتصدر الإعلام العراقي, وتتقدم حتى على نشاطات رئيس الجمهورية, ففي الاجتماعات المهمة والاحتفالات في المناسبات الوطنية والقومية, نراهم في مقدمة الصفوف, والقرارات المصيرية, لا تصدر, إلاّ بعد استشارتهم واستمزاج رأيهم, وفي الغالب يتم الأخذ بها حتى لو كان فيها ضرراً على المصلحة الوطنية للبلاد!!. والأمر المدهش والغريب هو أن بعض القياديين العراقيين الكبارالأسرى لدى الأمريكان, عندما طلبوا منهم التفاوض, لم يبتّوا بالأمر قبل أخذ رأي عبد المجيد الرافعي !!.
كانت جيوبهم مكتنزة من أموال العراق, بالعملة الصعبة حصراً, يدرس أولادهم في أرقى الجامعات العالمية, ويقضون أوقات فراغهم الطويلة, في أجمل المنتجعات, ويركبون السيارات الفارهة, ويسكنون القصور الفخمة, وعلاجهم وذويهم في أفضل مشافي أوربا وأمريكا, وطلباتهم أوامر, ورغباتهم , لا تُردّ!!, وكل ذلك من مال الشعب المسكين.
يتحدثون عن؛(الطهارة الثورية)و(الزهد),و(التضحية),و(الثبات على المبادئ), ولكنهم لا يستعملون الاّ الملابس الانكليزية, والعطور الفرنسية, والأحذية الإيطالية, والفرو الألماني, والسيكار الكوبي, فتلك هي إمارات (زهدهم)!!, وعُدّة (نضالهم)!! ,ضد (الاستعمار, والصهيونية, والرجعية العربية),هذه المفردات التي لا يكلّون ولا يملّون من ترديدها, بمناسبة, وبدونها!!.
قبيل بدء العدوان الثلاثيني على العراق سنة 1991, ملأ هؤلاء ومن على شاكلتهم,مثل؛(أبو العباس), الفضاء الإعلامي, ضجيجاً وعجيجاً ووعيداً, بأن الجماهير العربية ستفجّر أرض العرب تحت أقدام المعتدين, وستقطع المضائق والممرات البحرية على أساطيلهم, وستنقضّ على عروش الحكام العملاء وتجعلها في خبر كان,وووو…الخ, من الجعجعة التي بلا طحن. ولكن الجماهير العربية التي وعدونا بنصرها لنا, اكتفت بمتابعة أنباء العدوان الغاشم, من خلال التلفاز, وكأنها تتابع مباراة بكرة القدم بين؛(ريال مدريد)و(برشلونة)!!.
من الأحداث المضحكة – المبكية, انه في تلك الأيام العصيبة والقاسية, من شباط 1991 ,كان زميلي النقيب؛(صالح ارحيّم), آمراً للسرية المكلفة بحماية مبنى القيادة القومية في بغداد, والذي صار هدفاً لطائرات التحالف الصليبي وصواريخهم منذ الليلة الأولى للعدوان, وتم تدميره تقريباً, مما حتّم على جنود السرية وضباطها, الانسحاب من بوابات المبنى المدمّر, والانتشار في خنادق مُعدّة سلفاً, في حدائق البناية وعند سياجها الخارجي, وكانوا بمعنويات سيئة, فالموت يتهددهم في كل لحظة, ولم يتمكنوا من الاغتسال وحلاقة ذقونهم واستبدال ملابسهم منذ أسابيع, وقد أعياهم السهر, وأضناهم التعب. فزارهم, وهم في تلك الحالة المزرية, أحد أعضاء القيادة القومية, وهو بكامل أناقته وتفوح منه العطور الباريسية, ويتدلّى السيجار الكوبي من بين شفتيه المتهدلتين, جاءهم من أحد المقرات البديلة والآمنة, والتي لا تُسمع فيها أصوات الانفجارات, لـ(يتفقد أحوالهم)!!. مشهدان متنافران ومتناقضان بين مجاهدي الخنادق و(مناضلي الفنادق). وهنا لم يفوّت النقيب صالح هذه الفرصة, فقال للعضو الزائر: يا رفيق؛ أين نصرة الجماهير العربية التي وعدتمونا بها ؟!!, أنبئهم إن شعب العراق عاتب عليهم الى درجة المرارة. كانت هذه الجملة القصيرة الصادرة من قلب عراقي مكلوم, وبإسلوبه القروي البسيط والصريح الذي لايجيد المداهنة ولا يتقنها, بمثابة صرخة بوجه أدعياء النضال والراقصين على آلام المغفلّين. فغادر هذا, سريعاً خوفاً من غارة جوية متوقعة ,وهرباً من صوت صفارات الإنذار المزعجة التي كانت تعوي بلا انقطاع .
لقد بقي هؤلاء (المناضلون) يتمتعون بكافة الامتيازات المادية والاعتبارية,(وإن كان البريق الاعلامي قد خفَت عنهم كثيراً), حتى خلال سنوات الحصار القاسية, حين اضطر الناس لأكل طعاماً تعافه حتى الحيوانات, بينما هم كانوا يأكلون من الطعام؛ألذّه وأطيبه, وبقوا على هذا الدلال لغاية اليوم المشؤوم 9-4-2003, حيث احتُلّت البلاد التي كانت تأويهم وتوفر لهم أسباب الراحة والرفاه والعيش الرغيد على حساب شعبها الذي كانت أغلبيته الساحقة تأنُّ تحت خط الفقر. ففرَّ(المناضلون)الى البلاد الأوربية والأمريكية حيث يدرس أولادهم في جامعاتها, وبعضهم حصل على جنسيات تلك البلدان, حاملين الكثير من أموال العراق, وبما نقلوه سابقاً تحسباً لمثل هذا اليوم. لقد اكتنزوا من أموالنا وتمتعوا بخيرات بلادنا, مقابل كلام سقيم لا يغني ولا يسمن, باعوه لنا. وفي الشدائد والمحن, تخلّوا عنا ونكصوا على أعقابهم. ولا عزاء للمغفلّين.
في المقال القادم, إن شاء الله, سأذكر أمثلة وشواهد, لمواقف بعض أعضاء القيادة القومية المشينة من العراق وشعبه, بعد احتلال بلادنا. والله المستعان.