القاسم المشترك بين كل الشهداء الذين راحوا نتيجة اغتيالات سياسية وحشية في لبنان والعراق، كلهم يرفضون تدخلات إيران وأذرعها الميليشياوية، ويضعون مصلحة بلادهم في المقدمة ويصدعون بالكلمة الحرة. المدهش هو أيضاً في تشابه الصورة إن لم يكن تطابقها بين بيروت وبغداد فيما جرى فيهما من حراك شعبي لقوى وطنية رفضت علناً تدخلات إيران واتهمتها بسلب مقدراتها.
لغتهم كانت تقول لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى ولا يمكن السكوت عن ما يحدث؛ فالتراكمات كبيرة والمعاناة أكبر، والأنظمة السياسية الحاكمة نخرها الفساد والمحسوبية والخضوع لإرادة الخارج وإملاءاته. المتابع للمشهد يوقن أن الظرف والأحداث ودقة المرحلة دفعت العراقيين واللبنانيين أن يُغلّبوا مصلحة وطنيهما على المصالح الفئوية، وأن يكون قرارهما مستقلاً؛ ما يعني الانفكاك من فلك الإسار الإيراني وتغيير اتجاه البوصلة باتجاه العرب. صحيح أن هناك أطرافاً وأشخاصاً داخل العراق ولبنان لا يميلون للتقارب العروبي ولا يحبذونه، وعادة ما يضعون العراقيل لتعطيله؛ كونهم يعتقدون أن هذا التقارب يمثل تهديداً للمصالح الإيرانية في كل من البلدين، إلا أن الأمور كما يبدو لم تعد كذلك، بدليل أن الفئة التي رهنت قرار بلادها للخارج تعيش اليوم وضعاً صعباً لا تحسد عليه.
لا يمكن أن ننسى الصورة التي تشكلت في البلدين؛ ما جعل وجه التشابه بينهما يزداد يوماً بعد يوم ليصبح المشهد ماثلاً للعيان من شباب وهتافات وحس وطني، فضلاً عن أن المطالب هي المطالب ذاتها. لا بد من أن تُطوى صفحة وتُفتح صفحة جديدة، والشعوب حسمت أمرها وقالت كلمتها، ومنسوب الوطنية ارتفع فتجاوز كل التصنيفات الأخرى؛ لأنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.
الشعوب نزلت للشارع منادية برحيل الزعامات السياسية والحكومات، وطالبت بالعمل المؤسساتي بأن يصار إلى إلغاء سياسة الإقصاء الطائفي وعدم السماح لإيران من الهيمنة على القرار السياسي، وترسيخ نظام سياسي غير طائفي وإلغاء الميليشيات، وأن يكون السلاح تحت سلطة الدولة. حتى في طبيعة الصراع والمواجهة تجد أن البلدين يصارعان اليوم من أجل بناء دولة ضد من يكرسون وضع اللادولة.
في العراق، أوصلت الثورة السيد الكاظمي إلى سدة الحكم والذي لم يتردد في التعليق على جريمة اغتيال الهاشمي، مؤكداً أنهم لن يناموا حتى ينال المجرمون عقابهم، وأنه لن يسمح بالفوضى وسياسة المافيا، ومضى في إصراره اللافت قائلاً إن العراق لن يتحول إلى دولة عصابات ولا أحد فوق القانون. وثمة فرصة تاريخية للكاظمي في أن يستغلها في مواجهة هذه الميليشيات العصبوية، ويجب أن تصل العقوبة للمحرضين والقيادات قبل المنفذين ليرسخ مفهوم العدالة لا سيما بعد الثورة الشبابية. استهداف الهاشمي كانت له رسائل واضحة بطبيعة الحال، وأولاها إلى من ينتقد ولاية الفقيه وتدخلات إيران في نخر الجسد العربي، وكذلك لرئيس الوزراء الكاظمي بأن الهيمنة الإيرانية ستبقى ولن تتلاشى. إذن المسألة فيها تحدٍ كبير ويستطيع أن ينجح السيد الكاظمي إذا راهن على قاعدته الشعبية، ومن حق العراق في أن يكون آمناً ومستقراً.
جريمة الاغتيال السياسي من أبشع الجرائم ومرفوضة اجتماعياً وإنسانياً ودينياً، وتعكس حالة دنيئة وخسة من السلوك المريض الرخيص الذي يتنافى مع كل الأعراف والقيم. جريمة القتل بدم بارد هدفها إسكات صوت الحق والكلمة الحرة، وقد يموت صاحبها وقد حدث كثيراً، ولكن الحقيقة يا سيدي لا تموت أبداً. جاءت جريمة اغتيال الباحث هشام الهاشمي في العراق وقد هزته أمنياً وسياسياً، ولكنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فمسلسل الاغتيالات لا يتوقف وهي مثال حي على حقيقة تلك الممارسات، وكيفية معالجة التعثر السياسي بسلوك غير إنساني. ثمة جرائم بشعة هزت الشارع العربي فكانت الأساليب واحدة والتهمة للميليشيات المحسوبة على إيران في استهداف النشطاء والمثقفين والوطنيين الذين يرفضون تدخل الخارجي وهيمنة ولاية الفقيه.
ما حدث هو جريمة اغتيال لرموز وطنية تم إسكاتها بالرصاص. فعندما لا تستطيع إسكات قول الحق إلا باستخدام وسيلة القتل، فإن ذلك السلوك، أقل ما يوصف به، بأنه الأشد دناءة وخسة وقذارة عرفها قاموس التاريخ. الثقافة العربية كما يقول البعض بأن صدرها ضيق، أي تضيق ذرعاً بالنقد والاختلاف، وقد يكون في هذا بعض الصحة؛ ولذلك يستفيد منها الفارسي والتركي وغيرهما لاختراق مجتمعاتنا العربية واستخدام الأدوات كالطابور الخامس لتنفيذ أجندتهم وتفتيت الوحدة الوطنية.
رموز فقدناهم وفقدهم التاريخ ورحلوا عنا وقد وضعوا بصماتهم وقالوا الكلمة الحرة التي استفزت الآخرين وإلا لما اغتيلوا. أشنع شيء في الوجود هو أن تقتل من لديه فكر ويحمل قلباً صادقاً وطنياً ينادي باستقلالية بلاده رافضاً تدخل الخارج أياً كان والقوائم الوطنية تحتشد بالرموز في عالمنا العربي الذين راحوا ضحية لسلوك إجرامي شاذ
ومرفوض ومقزز وضد معنى الحياة وقيم الإنسانية جمعاء.