مناقشة القول برفض وجود إعجاز علمي في القرآن الكريم
ناقشنا في الحلقة السابقة الرأي الأول الذي يقول بوجود الاختلاف بين القرآن الكريم والروايات في المجال العلمي والآراء العلمية الرصينة، ونناقش في هذه الحلقة الرأي الثاني الذي يقول برفض وجود إعجاز علمي في القرآن الكريم فضلاً عن الروايات.
وبحسب ما ذكرنا في حلقة سابقة فأن أصحاب هذا الرأي منهم من قال إن القرآن كتاب هداية فقط وليس كتاب علوم لنجد فيه معلومات ومعاجز علمية، ومنهم من قال إنه حتى على فرض وجود تلك المعلومات فإنه لا يصح نسبتها للإعجاز لأن عنصر التحدي -وتحدي المعاصرين بالذات- مفقود باعتبار عدم إمكانية معرفتها من المعاصرين.
وقلنا إنه كثيراً ما يجري الخلط بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي في تقصي آراء أصحاب هذا الموقف مع عدم توقع قبول الإعجاز العلمي ممن يرفض التفسير العلمي.
المناقشة:
قلنا في الحلقة الأولى من السلسلة في التمييز بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي ما مضمونه:
الإعجاز العلمي:
“إخبار القرآن الكريم أو النبي أو أهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) تصريحاً أو تلميحاً بحقيقة علمية لا تناسب إمكانيات ومعارف عصر نزول النص أو صدوره”.
التفسير العلمي:
“وهو محاولة تفسير بعض آيات القرآن الكريم أو روايات الرسول وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) وفقاً للمعطيات العلمية للعصر الحاضر”.
وبذلك يتضح الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي وكثيراً ما يتم الخلط بينهما.
وهنا ينقسم أصحاب هذا الرأي –وهم من المسلمين- إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: تقول بعدم وجود معلومات ومعاجز علمية في القرآن الكريم لأنه كتاب هداية لا كتاب فيزياء أو كيمياء أو غير ذلك.
المجموعة الثانية: تقول بأنه على فرض وجود معلومات علمية استباقية فإن لا يصح نسبتها للإعجاز لأن عنصر التحدي مفقود باعتبار عدم المعرفة وعدم إدراك المعاصرين لذلك.
مناقشة المجموعة الأولى:
لا شك إن القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب دراسي لأي علمٍ بحدِ ذاته، ولكن هل يعني ذلك استحالة أو عدم وجود معلومات وإعجاز علمي فيه؟!
لا يتناقض كون القرآن الكريم كتاب هداية مع ذلك، ولا مانع عقلاً ولا شرعاً من وجودها، بل قد يجب ذلك إذا تعلق الأمر بوضوح بالهدف القرآني أي الهداية، هذا من جانب ، ومن جانبٍ آخر فإن وجود معلومات علمية مما لا يمكن نكرانه في القرآن الكريم، ويمكن إثبات وجود إعجاز علمي في بعض الآيات على الأقل فكيف يصح القول حينها بعدم إمكانية ذلك وأدل دليلٍ على إمكان الشيء وجوده؟!
مناقشة المجموعة الثانية:
إن القرآن الكريم لم ينزل لخصوص معاصريه فقط فالقول بعدم وجود عنصر التحدي للمعاصرين بخصوص الإعجاز العلمي باعتبار عدم إدراكهم لذلك قول غريب، فالقرآن الكريم كتاب سماوي لرسالة خالدة، لذا فنعصر التحدي غير مفقود.
ثم إنه الإعجاز العلمي يختلف عن غيره فهو ليس مجرد تحدي بشأن عمل معين أو إخبار بمغيب بل هو تحدي علمي لا يدرك إلا من قبل المعاصرين للرأي العلمي البشري المتطابق معه في الغالب، وهو بهذا يشبه الإعجاز العلمي في الإخبار بالأمور المستقبلية ولتوضيح الصورة نضرب مثال على ذلك.
في قوله تعالى (غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿2﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿3﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿4﴾) (الآية 2-4 سورة الروم).
وفيها بإجماع المفسرين –أي الآيات الكريمة- تنبؤ بحدث مستقبلي سيحدث بعد بضع سنين، وقد حدث فعلاً، فسؤالنا هو أين عنصر التحدي بالنسبة لمن عاصر نزول النص ولم يشهد-لوفاة أو لغيره- هذا الحدث المستقبلي؟!
إذن يتضح من هذا المثال إن التحدي في الإعجاز ليس منحصراً بالمعاصر بل هو ممتد إلى غيره، بل إن هذا الأمر في الإعجاز العلمي بالذات يعد مزية لا مورد تشكيك.
من مناقشة رأي المجموعتين يتضح عدم صحة هذا الرأي، وسنناقش في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى الرأي الأخير من الآراء التي ذكرناها.