18 ديسمبر، 2024 8:23 م

القوة تحكم العالم

القوة تحكم العالم

نفهم من القوة في تجلياتها العامة النزوع نحو الفعل والعمل قصد تحقيق الغايات القصوى والأهداف المسطرة من خلال الفعل، قناعة من القوي في إزالة كل المخاوف والدسائس التي تحاك ضد سيادة الدول ومصالحها، القوة وموازين القوى تعني مجمل التحالفات في عالم السياسة والاقتصاد، توازن القوة العسكرية وتنامي الشعور بالقدرة على الفعل والحركة، إستراتيجية الفعل تعني ضرورة امتلاك الإنسان للعناصر الأساسية للقوة كالموارد الطبيعية، والطاقات البشرية والمؤسسات، وقوة الشعوب في روح الثقافة ورأسمالها الرمزي، ناهيك عن عشق الحرية دون الانجرار والتبعية للآخر، تاريخ البشرية يطبعه الصراع والتوتر، يمكن للصراع أن يلبس لباسا دينيا أو ثقافيا أو طبقيا، القوة في أبسط معانيها تشير للفعل أو التأثير الذي تمارسه القوة من حيث النتائج والقدرة على الفعل والإرغام . القوة المادية في عناصرها المتباينة، من العنصر البشري والجوانب المعنوية أو القوة الناعمة، في قدرة القيم على الظهور والانتشار أو لنقل القدرة على الجذب والإقناع بدون إكراه بناء على قنوات شفافة وأدوات في غاية النعومة والليونة، قوة الثقافة كذلك في توجيه العقول واستمالة الآخر، القوة ببساطة تعني التجانس والانسجام بين المادي والرمزي، فلا قوة تعلو على قوة الحق الذي يلزمنا في الفعل والقول بصوت عال عن كل ما يخالجنا من أفكار ومواقف، القوة هنا مفعمة بالمبدأ والفضيلة، ليست القوة فعلا ساكنا وجامدا لكن علاقة توازن بين القوى المتصارعة، اعتراف صريح وضمني بما تمتلك القوى من مؤهلات، القوة المتنامية والقوى المهيمنة في عالم تحكمه القوة الأحادية ويسيره الأقوياء بناء على وسائل مادية، من القوة الاقتصادية والقوة العسكرية والسياسية، ملامح القوة في سيادة الخطاب وتعميمه، علامات القوة الخشنة في الإملاء والتحريض والتشويه والاستقطاب وفرض العقوبات القاسية، القوة تعني التبعية في الانصياع للشروط من الشركات العابرة للقارات والنوادي المالية العالمية والكيانات الرائدة في مجال المال والأعمال، القوة تعني مجموعة من التكتلات والوحدة بأشكالها العسكرية والنقدية. إرادة القوة في معالمها السياسية والعسكرية، عندما يجتمع المال بالسلطة، وعندما تتوحد مراكز القوى ضد كل من يهدد مصالحها، موازين القوى التي حللها الفكر الفلسفي المعاصر في شتى الأبعاد، من الصراعات وتشابك المصالح وتعدد الاستراتيجيات في توليد السلطة داخل نظام عالمي موجه بالعولمة أحادية الثقافة .
لا تقاس القوة أحيانا بالموارد الطبيعية ولا بالبعد الاقتصادي لكنها تنحو نحو منحى آخر في امتلاك القدرات الخاصة بالعلم والتكنولوجيا والهيمنة بالمعرفة واحتكارها . فقد كتب الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون عن سلطة المعرفة والقوة الحقيقية التي تنحصر في ثلاث مستويات: منها السيطرة على الطبيعة بالعلم والمنهج، والسيطرة على الأمم بالمعرفة وأعلى شكل للسيطرة يتعلق بإخضاع الجنس البشري، يعني سياسة التحكم والتوجيه، وتطويع الكائن البشري وما يتناسب وتفوق الغرب في مجالات حيوية حتى تكتمل الهيمنة الغربية وتسود الحضارة . فلا سبيل لذلك إلا بالقوة في دلالتها المادية والمعنوية ، القوة هنا مرغوبة ومطلوبة لأغراض عملية ومفيدة في تبوأ المكانة والصدارة في العالم، ومن ثمة إرغام الآخر على الاعتراف بقدرته على الفعل .فالقوة العظمى في عالم اليوم كذلك لم تعد دولة بعينها أو قوة عسكرية ضاربة وعابرة لكنها كذلك مجموعة الدلائل والقدرات المهيمنة مثل قوة الرأسمال المادي العابر للحدود كما هو الشأن في هيمنة الدولار على مختلف التعاملات التجارية والمالية، ونظام السيولة، وانتقل الرساميل بين الدول، قيمة الدولار في فرض القيود والعقوبات الاقتصادية التي تؤدي لانكماش الاقتصاد المعادي للرأسمالية، والرافض لاندماج أوسع تحت قيود القوانين والإملاءات الدولية بخصوص الإصلاحات، وشروط القروض أو المساعدات في شكل هبات ومنح مالية وعسكرية واقتصادية، كما كان الأمر بين أمريكا والعراق، وسياسة العقوبات من خلال قانون النفط مقابل الغذاء، والعقوبات المفروضة على كوريا الشمالية وكوبا وروسيا وإيران، وما تسميه أمريكا بالدول المارقة والرافضة لاقتصاد السوق وسياسة التبعية، القوة هنا في الشركات العملاقة والرأسمال المتحرك ونفوذ المؤسسات المالية الدولية .
نتأمل في قواعد اللعبة وإستراتيجية الدول بين القوة العسكرية والقوة الناعمة، تشتعل الحروب هنا وهناك، مردها لأسباب اقتصادية وسياسية مغلفة بدوافع ثقافية أو دينية، حروب تنتعش فيها تجارة السلاح والتبادل التجاري، ويهيمن عليها خطاب يروم تسويق الشعارات المزيفة والتقليل من الآخر وقدراته، كما يعلب الإعلام بأنواعه هذه الوظائف، إعلام ممول من قبل الدول والشركات العملاقة، يتوجه للعواطف حتى يؤسس مواقف مناوئة، ويكرس صورة معينة بمثابة حربا نفسية لانهيار المعنويات. عناصر القوة موجودة في كل ما تمتلك الدول من موارد طبيعية وإمكانيات علمية وتكنولوجية، وما تزخر به الدول من طاقات بشرية نشيطة، ونظرة استباقية للمستقبل . فقد كان الغرب يعتقد أن الزيادة في القوة الناعمة وتعميم الأنماط الثقافية المناسبة كفيل بالتقليل من الحروب والصراعات من خلال نشر ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية، وتعميم التكنولوجيا وثقافة الصورة، محاسن النظام العالمي الجديد ومزايا العولمة في شقها الثقافي والمعرفي، يمكن أن تشكل نقطة التقاء الحضارات في المشترك الإنساني، واختيار المناسب من النمط العقلاني الذي يلبي طموح الجماهير الواسعة في العالم، ولا تعني سياسة العولمة القضاء على العنف والحروب نهائيا، هذا التفاؤل تفنده الحروب والصراعات الحالية خصوصا من بداية الألفية الثالثة مما ساهم في الزيادة من الخوف والترقب .
أصبح العالم اليوم مخيفا من هيمنة نزعة القوة واستفحال الكوارث الطبيعية، هناك اختلال يصيب البيئة والنسيج الاجتماعي من جراء الفرار والهروب من الحروب والنزاعات، العالم اليوم يتجه نحو القوة بشتى أنواعها، من التهديد النووي والتهديد الوجودي للحضارات، هذا التهديد لا يأتي من المستضعفين بل من القوى الكبرى، من القوى الراغبة في حكم العالم على طريقتها، ما ترغب فيه الشركات العملاقة من مصالح منتشرة تسخر لها كل الآليات والوسائل الأيديولوجية والعسكرية. ما يحاك في الخفاء من سياسة احتواء للقوى الصاعدة وقيادة العالم من قبل حكومة خفية أو هكذا يفكر بعض الناس في عالم موجه بسياسة خفية . لم تعد للجماهير العالمية صيت أو صوت حق، منبع الحروب العالمية أوروبا، ومصدر الصراع تنافر المصالح وتباين المواقف، عودة الحرب الباردة والعداء التاريخي بين الشعوب الغربية المنقسمة أيديولوجيا حقيقة واقعية، لا مجال يتسع للمنظمات الدولية في إسكات أصوات المدافع، وحل المشكلات العالقة في العالم أو محاولة تفعيل القوانين المنصفة في سبيل الحق والعدالة الدولية، هناك قوى تتصارع وترغب كل منهما لاحتواء الآخر على المدى البعيد. نسمع عن الحكومة العالمية الخفية والأيادي اللامرئية التي تتلاعب بالعالم، نلمس انتقال القوة من الحكومات إلى الهيئات والفاعلين غير الحكوميين، قرار الحرب والسلم لم يعد بيد الجماهير العالمية، تكهنات عن نهاية الغرب وانحصار أمريكا وريادة الصين في المرحلة القادمة، نهاية العالم دو القطبية الواحدة وبروز عالم متعدد الأقطاب أو نفكر في عودة الحضارة للشرق من جديد، هناك توازنات عسكرية، إستراتيجيات متباينة في العالم بين معسكر غربي يشمل “حلف الناتو” ودول مناوئة أيديولوجيا وسياسيا وتتمثل في روسيا والصين وكوريا الشمالية، ما يحاك من تخطيط مستقبلي لا يمكن التكهن بنتائجه، فلا يمكن القول أن جل التحليلات الإستراتيجية ومجمل الدراسات المستقبلية قادرة على تحليل المعطيات وقراءة في المستقبل البعيد، التاريخ يتقدم للأمام والإنسانية تخطو خطوات، ولكل فعل أو حدث بداية ونهاية، لا بد أن تسير الأمور كما يرسمها التاريخ، وكما يرسمها الذين يمتلكون إرادة القوة للزيادة في التفكير والتغيير، إرادة القوة كما قال الفيلسوف نيتشه تشكل ماهية الحياة، الغريزة مصدر قوة الإنسان والدافع نحو حفظ البقاء، الوجود الذي يجعل الأمم تمتلك كل أسباب ووسائل القوة للرعب والتوازن، من الجيوش والاستخبارات والأسلحة، وأدوات المراقبة والمعاقبة، وما يتعلق بالموارد والقدرات المادية والمعنوية كلها عناصر للقوة، فلا تعني القوة الزيادة في قدرات الإنسان وطاقاته المعرفية أو تحقيق “السوبرمان” دو البنية الجسمية السليمة، والذهن المتوقد من أصحاب العقول الحرة، هذا الإنسان الذي يعادي قيم الضعفاء، وقيم الخنوع والاستسلام ، يعادي القيم البالية ويعيش في الخطر، إنسان لا تستهويه شهوة السلطة أو التحكم في الآخرين، هذا الفرد المتفرد موضوع آخر للبحث الفلسفي، لكن القوة هنا تعني القدرة على الفعل انطلاقا من موازين القوى، وانطلاقا من الوسائل والعناصر اللازمة في امتلاك كل الوسائل الممكنة من أجل التوازن، وخلق عالم بأقطاب متعددة .
الحرب بين روسيا وأوكرانيا يصورها الطرفين على أنها حرب من أجل الوجود ولأسباب وجيهة يقدمها كل طرف، حرب موجهة بالعداء السياسي وقراءة روسيا لأوكرانيا كعدو جديد يوجد على تخومها لأنها بدلت من ولائها القديم، وتحولت صوب الغرب فأصبحت مقرا للنازيين الجدد، تأتمر بأمر أمريكا، أما من جهة أوكرانيا فهي حربا ظالمة من روسيا المعتدية، ومن زعيمها “فلاديمير بوتين” الذي تحدده هواجس بناء الإمبراطورية الروسية، وتقسيم أوكرانيا إلى شطرين . أوكرانيا مستقلة وحرة في اختيار ما يناسبها من علاقات وأنها لا تعادي أحدا كما يقول رئيسها زيلنسكي .
القوة تحكم العالم وموازين القوى متوازنة بين العمالقة الكبار، كل منهم يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية، أما التفكير في غمار الحرب يعني تدمير البشرية ونهاية العصر التكنولوجي، وبالتالي يبقى الترقب سائدا وتكهنات المراقبين والمحللين بانتصار الغرب على روسيا يمكن اعتباره خطأ في التقدير أو انتصار روسيا على الغرب بداية النهاية للغرب الرأسمالي، بل يمكن اعتبار البشرية الخاسر الأكبر عندما ينتشر الخراب، يقل التواصل وينتشر الجوع والغلاء، وتنحصر التجار الدولية، ويهيمن الانكماش على الاقتصاد العالمي، ويزداد التضخم وتنتهي الأنظمة الديمقراطية وتعم الفوضى العالم، وتنتهي الاستثمارات في البلدان النامية . فالقوة لا تخلق الحق كما قال الفيلسوف جون جاك روسو، لا يكون القوي قويا بما فيه الكفاية ما لم يغير من قوته ويحولها إلى حق وطاعته إلى واجب . فالغرب مطالب بالعودة إلى ثقافته العقلانية، والى المواثيق الدولية، وروسيا اليوم لا يمكن اختزالها في تاريخ الاتحاد السوفياتي، وإذا كانت تطالب بحق ضمان أمنها وسيادتها على حدودها من خلال تطمينات ومعاهدات. فالأمر لا يعتبر مستحيلا طالما لم تعد هناك حرب باردة ولا شيوعية مضادة للرأسمالية أو لون أحمر يهدد الوجود الغربي وينسف التعايش والسلام. بالمقابل من حق الحضارات العريقة صيانة وجودها واحترام خصوصيتها الثقافية .