23 ديسمبر، 2024 12:36 ص

القوة العظمى الوحيدة

القوة العظمى الوحيدة

كتابة– صاموئيل هنتنغتون
بداية ، نلفت انتباه القاريءالى ان المادة نشرت عام 1999 ، لذا يقتضي مراعاة الظروف الدولية ومجريات الوقائع السياسية وتسلسل الاحداث وتواريخها ..التي احاطت وقتئذ بنشر الدراسة … وهي وجهة نظر من احد البارزين في حقل السياسة والثقافة الامريكيتين ، ودراسته هذه تؤكد حقيقتين اساسيتسن ، الاولى ان العالم اوسع من ان يسمح بهيمنة قوة واحدة عليه . وثانيا ، ان تشبث امريكا بهذا بالاضافة الى غشامة القوة وضعف العمق الحضاري يدفع بتسارع شديد الى انهيار مرتكزات القوة وليس اضعافها فحسب . ولاهمية الافكار الواردة في الدراسة وتطابقها مع مجريات واقعنا الحالي المخطط له مسبقا من قبل سياسات القوى الكبرى كما هو مطروح في الدراسة ارتأيت ترجمتها لاعمام فائدتها .
============================
تغيرت السياسة العالمية بشكل اساسي خلال العقد الماضي وذلك بطريقتين، الاولى هي انها قد اعيد ترتيبها بشكل جوهري على وفق الخطوط الثقافية والحضارية، مثلما اوضحت في صفحات هذه المجلة ووثقت بشكل مطول في كتاب صدام الحضارات واعادة تكوين النظام العالمي، والثانية، ومثلما طرحت في الكتاب المذكور، هي ان السياسة العالمية تتمحور دائماً حول القوة والصراع من اجلها، وان العلاقات الدولية الراهنة تتغير وفق البعد الثقافي. وكان الهيكل العالمي للقوة ابان الحرب الباردة يقوم على القطبية الثنائية اما الهيكل الناشىء حالياً فانه مختلف تماماً.
هناك الآن قوة عظمى واحدة لكن هذا لا يعني ان العالم احادي القطب، فالنظام الاحادي القطب يضم قوة عظمى واحدة ولا توجد فيه قوى كبرى مهمة والعديد من القوى الصغيرة، ونتيجة لذلك يمكن للقوة العظمى ان تحل وبشكل فعال قضايا دولية مهمة وحدها، ولاتستطيع مجموعة من الدول الاخرى ان تمنعها من ذلك، وقد اقترب العالما القديم من هذا الوصف لعدة قرون تحت سيطرة روما، كما اقترب شرق اسيا من ذلك لبعض الوقت تحت السيطرة الصينية.
اما النظام الثنائي القطبية، كالذي كان قائما ابان الحرب الباردة، فانه يضم قوتين عظميين، وان العلاقات بينهما مركزية بالنسبة للسياسة الدولية. فكل قوة عظمى تسيطر على ائتلاف من الدول الحليفة وتتنافس مع القوة العظمى الاخرى من اجل النفوذ في وسط البلدان غير المنحازة. ويتكون النظام المتعدد الاقطاب من عدة قوى كبيرة ذات قوة مقارنة تتعاون وتتنافس في ما بينها بانماط متغيرة. وان ائتلافا من دول كبيرة ضروري لحل قضايا دولية مهمة وقد اقتربت السياسة الاوربية من هذا الوصف لقرون عدة.
ان السياسة الدولية المعاصرة لا تتلاءم مع اي من هذه النماذج الثلاثة. بل انها هجين غريب، فهي نظام احادي- متعدد الاقطاب يضم قوة عظمى واحدة وقوى كبيرة عدة. وان حسم قضايا دولية رئيسية يتطلب
فعل القوة العظمى الوحيدة ولكن دائما بنوع من التضافر مع الدول الكبيرة الاخرى، وان القوة العظمى تستطيع. على اية حال، ابطال الفعل بشأن قضايا رئيسية بالتضافر مع دول اخرى. والولايات المتحدة هي، طبعاً، الدولة الوحيدة التي تتمتع بالتفوق في كل ميادين القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والايديولوجية والتكنولوجية والثقافية، بالحجم والقدرات التي تمكنها من تعزيز مصالحها في كل جزء من العالم. وعلى مستوى ثان هناك قوى اقليمية كبيرة تبرز في مناطق من العالم دون ان تكون قادرة على توسيع مصالحها وقدراتها بشكل كوني كالولايات المتحدة. وهذا يشمل السيادة الالمانية- الفرنسية المشتركة في اوربا، وروسيا في اوراسيا، والصين وربما اليابان في شرق اسيا، والهند في جنوب اسيا، وايران في جنوب غرب اسيا، والبرازيل في امريكا اللاتينية وجنوب افريقيا ونايجيريا في افريقيا. وعلى مستوى ثالث، هناك قوى اقليمية ثانوية غالباً ما تتصادم مصالحها مع الدول الاقليمية الاكثر قوة. وهذه تشمل بريطانيا في علاقاتها مع التجمع الالماني- الفرنسي واوكرانيا في علاقاتها مع روسيا، واليابان في علاقاتها مع الصين، وكوريا الجنوبية في علاقاتها مع اليابان، والباكستان في علاقاتها مع الهند، والعربية السعودية في علاقاتها مع ايران، والارجنتين في علاقاتها مع البرازيل.
ان القوة العظمى او المهيمنة في نظام احادي القطب الذي تنعدم فيه اي قوى رئيسة تتحداها، قادرة طبعا على ادامة سيطرتها على الدول الصغيرة لفترة طويلة حتى يدب فيها الضعف نتيجة لتاكل داخلي او بفعل قوى من خارج النظام، كما حدث لروما في القرن الخامس وللصين في القرن التاسع عشر. اما في نظام متعدد الاقطاب، فان كل دولة ربما تفضل نظاما احادي القطب تكون فيه هي القوة الوحيدة المسيطرة، لكن الدول الاخرى سوف تمنع حدوث ذلك، كما هي الحال في السياسة الاوربية.
وابان الحرب الباردة، فضلت كل قوة عظمى وبشكل واضح نظاما احادي القطب تحت هيمنتها.بيد ان العوامل المحركة للتنافس وادراكها المبكر بان اية محاولة لخلق نظام احادي القطب عن طريق القوة المسلحة سوف يكون كارثة بالنسبة للقطبين، قد مكنت القطبية الثنائية من الاستمرار لاربعة عقود الى ان اصبحت احدى الدولتين غير قادرة على مواصلة التنافس.
وفي كل من هذه الانظمة، تكون لاكثر اللاعبين قوة مصلحة في ادامة النظام. اما في نظام احادي- متعدد الاقطاب، فان هذا الامر لا يصح كثيرا. فمن الواضح اان الولايات المتحدة تفضل نظاما احادي القطب تكون فيه هي القوة المهيمنة وهي تعمل في الغالب كما لو ان هكذا نظام قائم بالفعل. اما القوى الكبير، فهي تفضل نظاماً متعدد الاقطاب يمكنها من متابعة مصالحها بشكل انفرادي وجماعي دون ان تتعرض للقيود او القسر او الضغط من جانب قوة عظمى اقوى. وهذه الدول تشعر بانها مهددة بما تعتبره المتابعة الامريكية للهيمنة العالمية . بينما يشعر المسؤولون الاميركان بالاحباط لاخفاقهم في تحقيق تلك الهيمنة. ولم تكن من بيين القوى الرئيسة في الشؤون العالمية دولة سعيدة لهذا الواقع الراهن.
ان جهود القوة العظمى الرامية الى انشاء نظام احادي القطب تحفز جهدا اكبر من قبل القوى الكبيرة من اجل التحرك نحو اقامة نظام متعدد الاقطاب. والواقع ان جميع القوى الاقليمية الكبيرة تؤكد نفسها بشكل
متزايد من اجل تعزيز مصالحها المتميزة والتي غالباً ما تتضارب مع مصالح الولايات المتحدة. ولهذا فان السياسة العالمية قد انتقلت من نظام القطبية الثنائية الذي ساد ابان الحرب الباردة الى لحظة ساد فيها القطب الواحد، تجلت معالمها في حرب الخليج الثانية 1991 وهي تمر الان في عقد او عقدين يسود فيهما النظام الاحادي- المتعدد الاقطاب قبل ان تدخل الى القرن الحادي والعشرين المتعدد الاقطاب فعلاً. وان الولايات المتحدة سوف تكون، مثلما قال بريجنسكي، القوة العظمى العالمية الاولى والاخيرة والوحيدة.
ويميل المسؤولون الاميركان بشكل طبيعي جدا الى التصرف كما لو ان العالم اصبح احادي القطب. فهم يتباهون بالقوة الاميركية والفضيلة الاميركية ممتدحين الولايات المتحدة بوصفها المهيمن الخير. ويبينون للبلدان الاخرى في محاضراتهم شمولية المبادئ والمسارات والمؤسسات الاميركية. ففي مؤتمر قمة السبعة الكبار الذي عقد في دنفر عام 1997، تباهى الرئيس كلنتون بنجاح الاقتصاد الاميركي كنموذج للاخرين كما سمت مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية، الولايات المتحدة بأنها “الدولة التي لا غنى عنها” وقالت “اننا نقف على طولنا ونرى ابعد مما ترى الدول الاخرى”. وهذا القول يصح بالمعنى الضيق الذي يفيد بان الولايات المتحدة هي مشارك لا غنى عنه في اي جهد لمعالجة المشاكل العالمية الكبيرة. لكنه قول زائف ايضاً لانه يوحي بان الدول الاخرى يمكن الاستغناء عنها، في حين ان الولايات المتحدة تحتاج الى تعاون بعض البلدان الرئيسة في معالجة اية قضية، وكذلك في القول بان الضرورة الاميركية هي مصدر الحكمة.
واثناء تناوله لمشكلة الفهم الخارجي “للهيمنة” الاميركية طرح نائب وزير الخارجية الاميركية (ستروب تالبوت) هذا البسط المنطقي: “في احدى صور تلك الهيمنة والتي تبدو فريدة في تاريخ القوى العظمى، فان الولايات المتحدة توضح قوتها- في الحقيقة، عظمتها- ليس من باب قدرتها على تحقيق هيمنتها على الاخرين وادامة تلك الهيمنة، ولكن من باب قدرتها على العمل مع الاخرين في مصلحة المجتمع الدولي بشكل عام.. حيث ان السياسة الخارجية للولايات المتحدة تهدف بشكل واع الى الارتقاء بالقيم الكونية وان التعريف الاكثر اختصارا لظاهرة “الهيمنة غير الخطيرة” قد ورد على لسان نائب وزير الخزانة (لورانس. اج. سوبرز) عندما سمى الولايات المتحدة “بالقوة العظمى الاولى غير الاستعمارية”- وهذه دعوة استطاعت من خلال ثلاث كلمات ان تمجد تفرد وعفة وقوة الولايات المتحدة.
وهكذا نجد ان السياسة الخارجية الاميركية تقودها مثل هذه الاعتقادات في احيان كثيرة. وخلال السنوات القليلة الماضية كانت الولايات المتحدة تحاول من بين اشياء اخرى او ينظر اليها كأنها تحاول بشكل او بآخر من جانب واحد ان تفعل ما يلي:
* ممارسة الضغط على الدول الاخرى لتبني القيم والممارسات الاميركية التي تتعلق بحقوق الانسان والديمقراطية.
* منع الدول الاخرى من امتلاك القدرات العسكرية التدريبية لتواجه التفوق التقليدي الاميركي.
* فرض القوانين الامريكية على المجتمعات الاخرى خارج حدود الولايات المتحدة.
* ترتيب الدول وفقا لتقيدها بالمعايير الاميركية بشان حقوق الانسان والمخدرات والارهاب وعدم الانتشار النووي والصواريخ، ومؤخراً الحرية الدينية، تطبيق العقوبات ضد الدول التي لا تلبي المعايير الاميركية حول هذه المواضيع.
* ترويج المصالح الاميركية المشتركة تحت شعارات التجارة الحرة والاسواق المفتوحة.
* رسم سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من اجل خدمة تلك المصالح.
* التدخل في الصراعات المحلية التي للولايات المتحدة مصلحة مباشرة قليلة نسبياً فيها.
* اجبار الدول الاخرى على تبني سياسات اقتصادية واجتماعية تخدم المصالح الاقتصادية الاميركية.
* ترويج مبيعات الاسلحة الاميركية في الخارج بينما تحاول منع مبيعات مشابهة من دول اخرى.
* عزل امين عام الامم المتحدة واملاء تعيين خلف له.
* توسيع حلف الناتو من الناحية المبدئية كي يضم بولندا وهنغاريا وجمهورية التشيك ولا احد غيرها.
* تولي اتخاذ الاجراءات العسكرية ضد العراق ومواصلة فرض عقوبات اقتصادية قاسية ضد النظام.
* تصنيف بعض الدول المعنية بانها “دول خارجة عن القانون” مستثنية تلك الدول من المشاركة في المؤسسات الدولية لانها ترفض ان تركع للرغبات الاميركية.
وفي زمن القطب الواحد في نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، كانت الولايات المتحدة قادرة في الغالب على فرض ارادتها على الدول الاخرى، ذلك الزمن قد مضى. وتحاول الولايات المتحدة الان استخدام اداتين قسريتين اساسيتين هما العقوبات الاقتصادية والتدخل العسكري. بيد ان العقوبات تفعل فعلها، فقط عندما تساندها الدول الاخرى، وهذه هي الحالة التي اخذت بالتراجع. وهكذا فليس امام الولايات المتحدة سوى: اما ان تطبقها بشكل انفرادي وبشكل يضر مصالحها الاقتصادية وعلاقاتها مع حلفائها، او انها لا تفرضها، وفي هذه الحالة تصبح رمزا للضعف الاميركي.
وبامكان الولايات المتحدة ان تشن هجمات بصواريخ كروز او قصفا جويا ضد اعدائها، بتكاليف اقل نسبيا ولكن مثل هذه الاجراءات بحد ذاتها تحقق القليل. الا ان التدخل العسكري الاكثر جدية ينبغي ان يلبي ثلاثة متطلبات:
1- يجب اعطاؤه صفة الشرعية من خلال بعض المنظمات الدولية، مثل الامم المتحدة حيث يكون في هذه الحالة عرضة للفيتو الروسي او الصيني او الفرنسي.
2- كما انه يتطلب مشاركة القوات الحليفة، التي ربما قد تتحقق او لا تتحقق.
3- ويجب ان لا تنتج عنه خسائر اميركية وبالنتيجة لا خسائر “بين صفوف المشاركين” ايضاً.
وحتى لو استطاعت الولايات المتحدة تلبية تلك الشروط الثلاثة، الا انها تخاطر في اثارة الانتقادات ضدها ليس فقط على المستوى الداخلي بل حتى على المستوى الشعبي والسياسي خارج الولايات المتحدة.
ويبدو ان المسؤولين الاميركان لا يدركون حقيقة مفادها انه كلما زادت الولايات المتحدة من هجومها على زعيم احدى الدول الخارجية، ازدادت شعبية ذلك الزعيم بين ابناء شعبه الذين يصفقون له، لانه يقف شامخاً امام اكبر قوة على الارض. لقد فشلت حتى الان سياسة اخضاع الرؤساء بهدف تحجيم وتقليل فترة خكمهم وتقويض سيطرتهم على الحكم، ابتداء بفيدل كاسترو (الذي عايش ثمانية رؤساء اميركان) وانتهاء بسلوبودان ميلوسيفيج وصدام حسين.
وفي الواقع، ان احسن طريقة امام اي دكتاتور في اي بلد صغير في العالم لاطالة فترة حكمه في السلطة ربما يكون عن طريق تحفيز واثارة الولايات المتحدة من اجل اتهامه باعتباره زعيما “لدولة خارجة عن القانون” وانه يشكل تهديداً للسلام العالمي، وهناك حقيقة هي انه لا ادارة الرئيس كلنتون ولا مجلس الشيوخ ولا الشعب الاميركي على استعداد لدفع تكاليف الزعامة العالمية الاحادية والقبول بمخاطر تلك الزعامة. حيث ان بعض الزعماء الاميركان ينصحون بزيادة نفقات الدفاع بنسبة 50% لكن هذه طروحات لا يكتب لها النجاح- حيث ان الرأي العام الاميركي لا يرى حاجة لتوسيع الجهود والموارد لتحقيق الهيمنة الاميركية: ففي احد استطلاعات الرأي في عام 1997، فضل 13% فقط من مجموع الذين استطلعت اراؤهم وجود دور بارز للولايات المتحدة في القوة مع بقية دول العالم.
وقد اظهرت العمليات الاخرى لاستطلاع الاراء نتائج مشابهة: فعدم الاهتمام الشعبي بالشؤون الدولية هو امر تحرض عليه التغطية الاعلامية المتضائلة جدا للاحداث الخارجية. اذ ان 55- 66% من الشعب يقولون ان ما يحدث في اوربا الغربية واسيا والمكسيك وكندا ليس له الا تأثير قليل او ليس له اثر بالمرة على حياتنا. وعلى الرغم من ان الكثير من اعضاء نخبة السياسة الخارجية ربما يتجاهلون ذلك، او يشجبونه فان الولايات المتحدة تفتقر الى القاعدة السياسية المحلية اللازمة لاقامة عالم احادي القطب. فالزعماء الامريكان يهددون بشكل متكرر ويعدون بالعمل ولكنهم يعجزون عن فعل شيء. والنتيجة هي سياسة خارجية تقوم على “الكلام والتراجع” وسمعة متزايدة “لمهيمن فارغ”.
* القوة العظمى الشريرة
ان الولايات المتحدة بتصرفها كما لو العالم اصبح احادي القطب، تزداد عزلة في العالم. فالزعماء الاميركان يدعون باستمرار بانهم يتحدثون نيابة عن “المجتمع الدولي”. ولكن من هم الذين في اذهانهم؟ هل هي الصين؟ روسيا؟ الهند؟ الباكستان؟ ايران؟ العالم العربي؟ مجموعة دول جنوب شرق اسيا؟ افريقيا؟ اميركا اللاتينية؟ فرنسا؟ هل ان ايا من هذه البلدان او المناطق تعتبر الولايات المتحدة كمتحدث باسم مجموعة هي جزء منها؟ ان المجموعة التي تتحدث الولايات المتحدة باسمها، هي في احسن الاحوال، ابناء اعمامها الانكلو ساكسون (بريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا) في ما يتعلق بمعظم القضايا، والمانيا وبعض الديمقراطيات الاوربية الاصغر بشأن العديد من القضايا، واسرائيل في ما يتعلق ببعض قضايا الشرق الاوسط. واليابان في ما يتعلق بتنفيذ قرارات الامم المتحدة. وهذه دول مهمة، لكنها تعجز عن ان تكون هي المجتمع الدولي كله.
ففي قضية تلو الاخرى، وجدت الولايات المتحدة نفسها معزولة وبشكل متزايد، لا يقف الى جانبها غير شريك واحد او عدد قليل من الشركاء، في مواجهة باقي دول وشعوب العالم. وهذه القضايا تشمل:
* مستحقات الامم المتحدة والعقوبات المفروضة على كوبا وايران والعراق وليبيا.
* ومعاهدة حظر الالغام البرية.
* وازدياد حرارة الكون.
* والمحكمة الدولية لجرائم الحرب.
* والشرق الاوسط.
* واستخدام القوة ضد العراق ويوغسلافيا.
* واستهداف (35) بلدا بعقوبات اقتصادية جديدة بين عامي 1993 و 1996.
ففي هذه القضايا وفي قضايا اخرى، وقف الكثير من المجتمع الدولي في جانب ووقفت الولايات المتحدة في الجانب الاخر. وان دائرة الحكومات التي ترى مصالحها تتوافق مع المصالح الاميركية تضيق باستمرار.
ويتضح هذا بشكل جلي، من بين طرق اخرى، في التكتل المركزي بين الاعضاء الدائميين في مجلس الامن. ففي العقود الاولى من الحرب الباردة، كانت الحالة هي اربعة اعضاء مقابل واحد، اي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين ضد الاتحاد السوفيتي. وبعد ان تبوات حكومة ماو الشيوعية مقعد الصين اصبح التكتل ثلاثة مقابل واحد ومقابل واحد ايضا، كانت الصين في وضع وسط متغير. اما الوضع الان فهو اثنان مقابل واحد ومقابل اثنين ايضا، اي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد الصين وروسيا، وفرنسا في موقع وسط.
وفي الوقت الذي تشجب فيه الولايات المتحدة بلدانا مختلفة واصفة اياها “بالدول الخارجة عن القانون”. فانها تصبح في نظر العديد من البلدان القوة العظمى الخارجة عن القانون.
لقد دعا احد الدبلوماسيين اليابانيين المعروفين، وهو السفير هيساشي اوادا، بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الى انتهاج سياسة “العالمية الاحادية الجانب” وذلك بتقديم منافع عامة على شكل امن ومعارضة الشيوعية واقتصاد عالمي مفتوح ومساعدات للتنمية الاقتصادية ومؤسسات دولية اقوى. ولكن الولايات المتحدة تنتهج الان سياسة “احادية عالمية” قائمة على تعزيز مصالحها الخاصة مع اهتمام طفيف بمصالح الاخرين.
ان من غير المرجح ان تصبح الولايات المتحدة بلدا انعزاليا وتنسحب من العالم، ولكنها قد تصبح بلدا معزولا وعلى خلاف مع الكثير من دول العالم.
واذا كان عالم احادي القطب امرا لا يمكن تفاديه، فان العديد من البلدان ربما تفضل الولايات المتحدة كقوة مهيمنة. بيد ان هذا يرجع في الغالب الى كونها بعيدة عنهم وهي لهذا قد لا تحاول الاستحواذ على اية من اقاليمهم. كما ان القوة الاميركية تقيم من قبل الدول الاقليمية الثانوية بانها تكبح سيطرة الدول الاقليمية الرئيسية
الاخرى. وهذه على اية حال، هيمنة خيرة، في نظر المهيمن. فقد اشار احد الدبلوماسيين البريطانيين الى ذلك بقوله: “ان المرء يقرأ عن رغبة العالم في الزعامة الاميركية في الولايات المتحدة فقط، اما في اي مكان اخر فان المرء يقرأ عن العنجهية والتفرد الاميركي”.
ويقاوم القادة السياسيون وقادة الفكر في معظم البلدان وبقوة افق ظهور عالم احادي القطب ويفضلون ظهور اقطاب متعددة حقيقية. ففي مؤتمر عقدته جامعة هارفرد في عام 1997، افاد العلماء بان مجتمعات النخبة في بلدان تشكل ما لا يقل عن ثلثي سكان العالم، وهم الصينيون والروس والهنود والعرب والمسلمون والافارقة، يعتبرون الولايات المتحدة بانها التهديد الخارجي الاكبر الوحيد لمجتمعاتهم. وهم لا يعتبرون الولايات المتحدة خطرا عسكريا بل تهديدا لسلامتهم واستقلالهم وازدهارهم وحريتهم في العمل. وينظرون اليها كقوة اقتحامية وتدخلية واستغلالية وانفرادية ومهيمنة ومرائية وتطبق معايير مزدوجة، ومتورطة في ما يسمونه “بالامبريالية المالية” و “الاستعمار الثقافي”، وتنتهج سياسة خارجية توجهها اساسا السياسة الداخلية. وبالنسبة لمجتمعات النخبة الهندية، افاد احد العلماء الهنود بقوله “ان الولايات المتحدة تمثل التهديد الدبلوماسي والسياسي الكبير ، ففي كل قضية تهم الهند ،تستخدم الولايات المتحدة “النقض” او تحشد القوة ضدها، سواء اكان ذلك يتعلق بالقضايا النووية والتكنولوجية والاقتصادية والبيئية ام المسائل السياسية. وهذا يعني ان الولايات المتحدة تستطيع حرمان الهند من اهدافها وتستطيع حشد الاخرين معها من اجل معاقبة الهند. ومن خطايا الولايات المتحدة القوة والعنجهية والطمع”.
ومن المنظور الروسي، قال احد المشاركين الروس، ان الولايات المتحدة تنتهج سياسة “التعاون القسري”. وان جميع الروس يعارضون “قيام عالم يقوم على سيطرة الزعامة الاميركية التي تقترب من الهيمنة”. وبالصيغة، نفسها، قال مشارك من بكين، ان الزعماء الصينيين يعتقدون بان التهديدات الرئيسة للسلم والاستقرار وللصين هي “الهيمنة وسياسة القوة” اي السياسات الاميركية، والتي يقولون انها مصممة لتقويض الدول الاشتراكية والبلدان النامية وتمزيقها. اما مجتمعات النخبة العربية، فانها تعتبر الولايات المتحدة قوة شريرة في الشؤون العالمية، في حين ان الشعب الياباني اعتبر الولايات المتحدة في عام 1997 كتهديد لليابان يأتي في المرتبة الثانية بعد كوريا الشمالية.
ان هكذا ردود افعال ينبغي ان نتوقعها. فالزعماء الاميركان يعتقدون بان النشاط التجاري في العالم هو شانهم، في حين ان البلدان الاخرى تعتقد بان ما يحدث في مناطقها هو شأن من شؤونها، ولا علاقة لاميركا به. فقد قال نيلسون مانديلا، ان بلاده ترفض ان تقوم دولة اخرى “تتصف بالعنجهية بالاملاء علينا اين ينبغي ان نذهب وما هي البلدان التي ينبغي ان تكون من اصدقائنا.. اننا لا يمكننا ان نقبل قيام دولة ما بدور شرطي العالم”. وفي عالم ثنائي القطبية رحب العديد من البلدان بالولايات المتحدة كحام لها ضد القوة العظمى الاخرى. اما في عالم احادي – متعدد الاقطاب، وعلى الضد من ذلك، فان القوة العظمى الوحيدة في العالم تكون وبشكل آلي تهديداً للقوى الكبيرة الاخرى. فقد اوضحت القوى الاقليمية الكبيرة، الواحدة تلو الاخرى، بانها لا تريد ان
تتواجد الولايات المتحدة في مناطق تسود فيها مصالح تلك القوى. فايران، على سبيل المثال، تعارض بقوة الوجود العسكري الامريكي في الخليج العربي. وان العلاقات السيئة الراهنة بين الولايات المتحدة وايران هي نتاج الثورة الايرانية، ولكن لو كان الشاه او ابنه يحكمان ايران حاليا، فان تلك العلاقات ربما ستتدهور ايضا لان ايران سوف تعتبر الوجود الامريكي في الخليج تهديدا لهيمنتها هي هناك.
* ردود مرنة
ان البلدان ترد بطرق مختلفة على القوة العظمى الاميركية وهناك مستوى منخفض نسبيا من مشاعر الخوف والاستياء والحسد تنتشر على نطاق واسع. وهذه المشاعر تؤكد انه عندما تعاني الولايات المتحدة في مرحلة ما من ضربة مهينة من صدام حسين او ميلوسيفيج، فان الكثير من البلدان سوف تظن “بانهما قد حصلا في النهاية على ما يريدانه” وفي مستوى اعلى ربما تتحول مشاعر الاستياء الى نوع من المخالفة عندما ترفض البلدان الاخرى، ربما فيها الحليفة، التعاون مع الولايات المتحدة في قضايا مثل الخليج العربي وكوبا وليبيا وايران، والامتداد خارج نطاق الاقليم والوطني، والانتشار النووي، وحقوق الانسان، والسياسات التجارية وغيرها. وفي حالات قليلة، تتحول المخالفة الى معارضة صريحة عندما تحاول البلدان الحاق الهزيمة بالسياسة الاميركية. اما المستوى الاعلى من الرد فهو تشكيل تحالف معاد للهيمنة يضم قوى كبيرة عدة. وان هكذا تجمع هو ضرب من المستحيل في عالم احادي القطب وذلك لان الدول الاخرى ضعيفة الى الحد الذي لا يمكنها تشكيله. ويظهر هذا في عالم متعدد الاقطاب فقط عندما تصبح احدى الدول قوية ومثيرة للمشاكل بالشكل الذي يحفز تشكيله. وعلى اية حال، فان هذا الامر يبدو ظاهرة طبيعية في عالم احادي- متعدد الاقطاب. فعلى مدى التاريخ، كانت القوى الكبيرة تميل الى موازنة محاولات السيطرة التي تقوم بها الدول الاقوى بينها.
لقد حدث نوع من التعاون المضاد للهيمنة. فالعلاقات بين المجتمعات غير الغربية تتحسن بشكل عام. وهناك تجمعات تتكون وتغيب عنها الولايات المتحدة، بدءا من اجتماع موسكو الذي ضم زعماء المانيا وفرنسا وروسيا (الذي استبعد بريطانيا، اقرب حلفاء اميركا) الى الاجتماعات الثنائية بين الصين وروسيا، وبين الصين والهند. كما ان هناك تقاربا حاليا بين ايران والسعودية وبين ايران والعراق. وقد تزامن الاجتماع الناجح جدا لمنظمة المؤتمر الاسلامي الذي ضيفته ايران مع اجتماع قطر الكارثي الخاص بالتنمية الاقتصادية في الشرق الاوسط والذي رعته الولايات المتحدة. وقد وصف رئيس وزراء روسيا، يفغيني بريماكوف، روسيا والصين والهند “بالمثلث الستراتيجي” لموازنة الولايات المتحدة، وقد لاقت “نظرية بريماكوف” دعما جوهريا من قبل المجتمع السياسي الروسي كله.
ولا شك ان التحرك الوحيد الاكثر اهمية نحو تحالف معاد للهيمنة والذي يرجع الى نهاية الحرب الباردة، هو تشكيل الاتحاد الاوربي واصدار العملة الاوربية الواحدة. وكما قال هوبرت فيدرين، وزير خارجية فرنسا، فان اوربا يجب ان تتوحد وان تقيم قوة موازنة توقف الولايات المتحدة من السيطرة على عالم متعدد الاقطاب. ومن الواضح ان اليورو يمكن ان يشكل تحديا مهما لهيمنة الدولار في سوق المال العالمي.
وعلى اية حال، وبرغم كل هذا الضجيج، لم يظهر بعد تحالف واسع وفعال ورسمي مضاد لاميركا. وهناك تفسيرات عدة محتملة تتبادر الى الذهن هي:
اولاً، ان الامر ربما يكون قريبا جدا، وبمرور الوقت، فان الرد على الهيمنة الاميركية ربما يتصاعد من الاستياء الى المخالفة ومن ثم الى المعارضة والفعل الجماعي المضاد، وان التهديد الذي تشكله الهيمنة الاميركية هو، اقل مباشرة واكثر تشتتا من افق الانتصار العسكري الوشيك الذي شكلته الهيمنة الاوربية في الماضي. ولهذا فان القوى الاخرى يمكن ان تشعر بارتياح اكبر حول تشكيل ائتلاف لمواجهة السيطرة الاميركية.
ثانياً، في الوقت الذي ربما تستاء فيه البلدان الاخرى من القوة والثروة الاميركية، فانها تريد الاستفادة منها ايضاً. فالولايات المتحدة تكافئ الدول التي تتبع زعامتها وذلك بالسماح لها بالوصول الى السوق الاميركية والحصول على المساعدات الخارجية والمساعدات العسكرية والاستثناء من العقوبات والصمت ازاء الانحرافات عن المثل الاميركية (مثل انتهاكات السعودية) ودعمها للحصول على عضوية المنظمات الدولية والرشاوى وزيارات البيت الابيض من قبل الزعماء السياسيين.
كما ان كل قوة اقليمية كبيرة لديها مصلحة ايضا في تأمين الدعم الاميركي في صراعاتها مع القوى الاقليمية الاخرى. وفي ضوء المنافع التي تستطيع الولايات المتحدة توزيعها، فان السياق المعقول بالنسبة للبلدان الاخرى، في علاقاتها الدولية، هو ليس “الموازنة” ضد الولايات المتحدة بل “التوافق” معها. ولكن بمرور الوقت، وعندما تضعف القوة الاميركية، فأن المنافع المكتسبة من التعاون مع الولايات المتحدة سوف تتضاءل ايضا، وكذلك تتضاءل تكاليف معارضتها ايضا. وعليه، فان هذا العامل يعزز احتمال ظهور تحالف مضاد للهيمنة في المستقبل.
ثالثاً، ان نظرية العلاقات الدولية التي تتنبأ بالتوازن في ظل الظروف الراهنة هي نظرية تطورت في سياق النظام الغربي الاوربي الذي اقيم في عام 1648. اذ ان جميع البلدان في ذلك النظام اشتركت في ثقافة اوربية مشتركة ميزتها بحدة عن ثقافة الاتراك العثمانيين والشعوب الاخرى.
كما انها اعتمدت الدولة القومية كوحدة اساسية في العلاقات الدولية وقبلت المساواة القانونية والنظرية بين الدول برغم اختلافاتها الواضحة من حيث الحجم والثروة والقوة. وهكذا فقد ساعد التشابه الثقافي والمساواة القانونية في تشغيل نظام توازن القوة كي يصد ظهور دولة مهيمنة واحدة، على الرغم من انه لم يعمل بشكل كمالي جدا.
ان السياسة العالمية هي الآن سياسة متعددة الحضارات. فقد تكون لفرنسا ولروسيا والصين مصالح مشتركة فعلا في تحدي السيطرة الاميركية، ولكن ثقافاتهم المختلفة الى حد بعيد تجعل من تنظيمهم لتحالف فعال صعبا على الارجح. بالاضافة الى ان فكرة المساواة القانونية في سيادة الدول القومية لم تلعب دورا مهما في العلاقات بين المجتمعات اللاغربية التي تنظر بعين الاعتبار الى السلطة دون المساوات كعلاقة طبيعية بين الناس. والاسئلة الرئيسية التي تطرح بخصوص هذه العلاقة هي: من يكون في المقام الاول؟ ومن يكون في
المقام الثاني؟ ان عاملا واحدا في الاقل قاد الى انهاء التحالف الصيني- السوفيتي في نهاية عقد الخمسينات تمثل في عدم رغبة ماو تسي تونغ في القيام بدور ثانوي لمن يخلف ستالين في الكرملين. وعلى نحو مماثل، تتمثل العقبة الان امام تحالف مضاد لامريكا بين الصين وروسيا في معارضة روسيا للقيام بدور الشريك الصغير امام الصين الاكثف سكانا والاكثر فعالية اقتصادية. ان الاختلافات الثقافية، والحسد، والمنافسات قد تعوق القوى الكبيرة عن التحالف ضد القوى العظمى.
رابعاً، ان المصدر الرئيس للنزاع بين القوة العظمى والقوى الاقليمية الكبيرة هو تدخل الاولى في تضييق ومقاومة وتحديد سلوكيات الثانية. ومن جهة اخرى، يبدو تدخل القوة العظمى، بالنسبة للقوى الاقليمية الثانوية مصدراً يمكنها ربما من التحشد ضد القوى الكبيرة في مناطقها. وهكذا سوف تشترك القوة العظمى مع القوى الاقليمية الثانوية، غالباً وليس دائماً، بمصالح متقاربة ضد القوى الاقليمية الكبيرة، وسيكون للقوى الاقليمية الثانوية حافز ضئيل للانضمام في تحالف ضد القوة العظمى.
ان تفاعل القوى والثقافات سوف يشكل حتما نماذج منى التحالف والعداء بين الدول في السنوات القادمة. وان التعاون بصيغة الثقافة، امر ممكن بين الدول التي تتمتع بثقافات مشتركة وان الخصومة هي اكثر احتمالا بين الدول ذات الثقافات الواسعة الاختلاف. اما بقياسات القوة، فللولايات المتحدة والقوى الاقليمية الثانوية مصالح مشتركة في الحد من هيمنة الدول الكبيرة في مناطقها. لذلك قامت الولايات المتحدة بتحذير الصين عبر تقوية تحالفها العسكري مع اليابان ودعمت التوسع المعتدل للقدرات العسكرية اليابانية. كما ان العلاقات الخاصة التي تربط اميركا مع بريطانيا، توفر وسيلة فعالة ضد القوة الناشئة لاوربا الموحدة. والولايات المتحدة تعمل على تطوير علاقاتها مع اوكرانيا للوقوف بوجه اي توسع للقوة الروسية. ومع بروز البرازيل كقوة مهيمنة في اميركا اللاتينية، تحسنت الى حد كبير العلاقات الاميركية مع الارجنتين لدرجة ان الولايات المتحدة سمتها بالحليف العسكري غير الاطلسي. وتتعاون الولايات المتحدة بشكل وثيق مع المملكة العربية السعودية لمواجهة القوة الايرانية في الخليج وتقوم بمستوى اقل من النجاح بالعمل مع باكستان لموازنة الهند في جنوب اسيا. وفي جميع هذه الحالات يخدم التعاون المصالح المشتركة لاحتواء نفوذ القوى الاقليمية الكبيرة، وهذا التفاعل في ما بين القوة والثقافة يوحى بان الولايات المتحدة ستكون لها على الارجح علاقات صعبة مع القوى الاقليمية الكبيرة، مع ان علاقاتها مع الاتحاد الاوربي والبرازيل هي اقل صعوبة مما هي عليه مع الدول الاخرى. ومن جانب آخر على الولايات المتحدة ان تكون لديها علاقات تعاونية بشكل معقول مع جميع القوى الاقليمية الثانوية التي تمتلك ثقافات مشابهة (مثل بريطانيا والارجنتين وربما اوكرانيا)، اكثر من تلك القوى التي تمتلك ثقافات تختلف (مثل اليابان وكوريا الجنوبية والعربية السعودية وباكستان). واخيراً ينبغي ان تكون العلاقات بين القوى الاقليمية الكبيرة والثانوية التي تمتلك نفس الحضارة (مثل الاتحاد الاوربي وبريطانيا وروسيا واوكرانيا والبرازيل والارجنتين وايران والسعودية) اقل عداء من تلك العلاقات القائمة بين الدول ذات الحضارات المختلفة (كالصين واليابان وكوريا او الهند وباكستان او اسرائيل والدول العربية).
* ما هي تأثيرات مضامين عالم احادي- متعدد الاقطاب على السياسة الاميركية؟
اولاً، ينبغي على الاميركان ايقاف تصرفهم وتحدثهم وكان هذا العالم هو عالم احادي القطب. فهو ليس كذلك. ولغرض التعامل مع اية مسألة عالية عظمى، يتطلب الامر من الولايات المتحدة الحصول على تعاون، على اقل تقدير، بعض القوى الكبيرة، فالعقوبات الاقتصادية والتدخلات احادية الجانب انما هي وصفات تقود الى كوارث سياسية.
ثانياً، يجب ان يتخلى القادة الاميركان عن وهم المهيمن الخير الذي يشير الى ان هناك تطابقاً طبيعياً بين مصالحهم وقيمهم وبين تلك التي يمتلكها باقي العالم. اذ لا يوجد مثل هذا التطابق. فاحيانا ربما تعزز الاجراءات التي تتخذها اميركا المنافع العامة وتخدم اهدافا مقبولة بشكل واسع. ولكنها في احيان كثيرة ليس كذلك، وذلك بسبب العنصر الاخلاقي الفريد في السياسة الاميركية من ناحية وبسبب كون امريكا هي القوة العظمى الوحيدة من ناحية اخرى، وعليه فان مصالحها تختلف عن تلك المصالح التي تعود لدول اخرى. وهذا يجعل من اميركا دولة فريدة ولكن ليست خيرة في نظر تلك الدول.
ثالثاً، في الوقت الذي تعجز فيه الولايات المتحدة عن خلق عالم احادي القطب، فان من مصلحتها استغلال مكانتها كقوة عظمى في النظام العالمي القائم واستخدام مواردها لانتزاع التعاون من دول اخرى تتعامل مع قضايا كونية باساليب ترضي المصالح الاميركية. وهذا يتطلب بشكل جوهري اعتماد ستراتيجية بسمارك التي نصح بها جوزيف جوف، الا ان ذلك يتطلب ايضا وجود مهارات ومواهب بسماركية لتنفيذها ولا يمكن، باي حال، مواصلة تنفيذها بشكل غامض وغير محدد.
رابعاً، ان لتفاعل القوة والحضارة علاقة خاصة بالنسبة للعلاقات الاوربية الامريكية. فدينامية القوة تشجع المنافسة في حين ان اوجه التشابه الثقافي تسهل التعاون. لذا فان تحقيق اي هدف اميركي مهم يعتمد على انتصار الهدف الاخير على الاول، كما ان العلاقة مع اوربا تعد امرا جوهريا لنجاح السياسة الخارجية الاميركية. وفي ضوء النظرة المؤيدة والمناوئة لاميركا من جانب بريطانيا وفرنسا على التوالي، فان العلاقات التي تقيمها اميركا مع المانيا تبقى جوهرية بالنسبة لعلاقاتها مع اوربا. وبالتعاون الصحي مع اوربا هو البلسم لتفرد القوة الاميركية العظمى.
لقد جاد السيد ريتشارد هاس بان على الولايات المتحدة ان تتصرف كشريف عالمي يجمع “حشود” الدول الاخرى لمعالجة القضايا الدولية الكبرى كلما نشبت.
والسيد هاس هو الذي عالج قضايا الخليج العربي في البيت الابيض في عهد ادارة بوش، واقتراحه هذا يعكس الخبرة والنجاح لتلك الادارة في جمع الحشود العالمية غير المتجانسة لاجبار صدام حسين على الخروج من الكويت. ولكن ذلك حدث في حينه، في زمن القطب الواحد. وما حصل في ذلك الزمان تناقض كليا مع الازمة العراقية في شتاء عام 1998، حينما وقفت فرنسا وروسيا والصين ضد استخدام القوة وحشدت اميركا تجمعا انكلوساكسونيا وليس تجمعا عالميا، وفي شهر كانون الاول عام 1998، كان الدعم لتأـييد الضربات
الجوية الاميركية والبريطانية ضد صدام حسين، محدوداً ولاقى انتقادا واسعاً. والاكثر غرابة انه لم تكن هناك اية حكومة عربية، بما في ذلك الكويت، قد ايدت هذا الاجراء. فالسعودية رفضت السماح للولايات المتحدة باستخدام مقاتلاتها الحربية الموجودة في قواعدها هناك. وغدت الجهود التي تبذل لجمع حشود المستقبل في تشابهها، الى حد بعيد، اقرب لما حصل عام 1998 مما حصل عام 1990- 1991. ومعظم دول العالم، كما قال مانديلا، لا تريد الولايات المتحدة ان تنصب نفسها شرطيا للعالم.
ومع بروز نظام متعدد الاقطاب، فان انسب بديل (لمدير الشرطة العالمي) هو سياسة جماعية تتولى فيها القوى الاقليمية الكبيرة مسؤولية اساسية في حفظ النظام في مناطقها. وينتقد السيد هاس هذا الاقتراح بحجة ان الدول الاخرى الموجودة في المنطقة والتي اسميتها بالقوى الاقليمية الثانوية ستعارض توجيهها من قبل القوى الاقليمية الكبيرة. وكما سبق واشرت، فان مصالحها غالبا ما تتضارب. ولكن التوتر نفسه قد يبقى قائما في العلاقة القائمة بين الولايات المتحدة والقوى الاقليمية الكبيرة. اذ ليس هناك ما يدعو الولايات المتحدة الى تولي المسؤولية من اجل حفظ النظام ان كان تحقيقه ممكنا محليا. وعلى الرغم من ان الجغرافية لا تتطابق تماماً مع الحضارة، الا ان هناك تداخلا مهما بين المناطق والحضارات. وللاسباب التي اوردتها في كتابي، فان الحالة الصميمية لاية حضارة تستطيع المحافظة على النظام في ما بين افراد عائلتها الكبيرة بشكل افضل مما يستطيعه شخص ما من خارج العائلة. كما ان هناك ايضا دلائل في بعض المناطق مثل افريقيا وجنوبي شرق اسيا وربما حتى البلقان، تشير الى ان دولا بدأت في تطوير وسائل جماعية لصيانة الامن. وعليه فان التدخل الاميركي يمكن اقتصاره على تلك الاوضاع التي تحف بها احتمالات العنف، كالشرق الاوسط وجنوب اسيا والتي تضم دولا كبيرة متباينة الحضارات.
وفي العالم المتعدد الاقطاب الذي سيشهده القرن الحادي والعشرون، فمن المؤكد ان القوى الكبيرة ستتنافس وتتصادم وتلتئم مع بعضها بعضا باشكال وترتيبات متنوعة. وعالم كهذا، سينعدم فيه، على اية حال، التوتر والصراع بين القوى العظمى والقوى الاقليمية الكبيرة، وهو السمة المميزة لعالم احادي – متعدد الاقطاب. ولهذا السبب يمكن ان تجد الولايات المتحدة لها حياة كقوة كبيرة في عالم متعدد الاقطاب اقل مطلبية واقل نزاعا واكثر مكافأة من عالم القوة العظمى الوحيدة.
* المصدر
مجلة (الشؤون الخارجية) الامريكية، عدد (اذار- نيسان/ 1999)
[email protected]