بادئ ذي بدء لابد ان نذكر ما كان للقوانين والشرائع من اهمية في استقرار الكيانات البشرية، والاصلاحات التي حققتها تلك الشرائع والقوانين والتي تطورت بمرور الزمن الى ما نحن فيه الان..
وهناك مقولة قانونية اجتماعية مفادها ان المجتمع الصالح هو ما كان افراده صالحين، وهو المجتمع المتكامل الذي عبر الفيلسوف الفارابي بعبارة (المجتمع الفاضل)، ذلك ان المجتمع كيان او بناء كلي تتكون اجزاؤه من الجماعات والاسر، وهذه تتكون من الافراد، فالفرد هو الوحدة الصغرى التي يقوم من تضامنها مع الوحدات الكبرى المجتمع الذي تبنى عليه كل دولة او حكومة اقليمية ضمن الدولة المركزية.
ولذلك كان صلاح الكل بصلاح الجزء، وتقدم الكل بتقدم الجزء، ورفاهية الكل برفاهية الجزء، وكانت احوال الدولة تقاس في الغالب في اكثر ميادينها بحالة الفرد، وسلوك الفرد ايضاً ينم بصورة عامة عن سلوك المجتمع او سلوك الدولة المركزية او المحتوية على (الاقاليم المتحدة) في الكثير الغالب.
ومن هذا المبدأ او هذه الحقيقة كانت القوانين او الشرائع في كل امة او شعب عبر التاريخ، تهدف اولاً وقبل كل شيء، الى تحديد سلوك الفرد في اطار صالح من الاعمال والتصرفات، بل المقاصد والنيات، وكانت همم المصلحين بالدرجة الاولى تهدف الى اصلاح الفرد، لان بصلاح الفرد صلاح المجتمع كله، واصبح الجميع يعمل على خلق (المواطن الصالح) او الفرد الفاضل في مجتمع المدينة الفاضلة حسب تعبيرات الفلاسفة الاصلاحيين والداعين الى اشاعة الخير والوئام والسلام بين افراد والمجتمع.
اما القوانين فهي تهدف الى تحديد السلوك او تقييد التصرفات بحسب ما تقتضيه المصالح العامة من حيث اقامتها (وازعاً عقابياً) على نتائج السلوك او مخالفات القوانين والشرائع، ولتمنع جور فرد على فرد، وطغيان هذا على ذاك، ليسير الكل في اعمالهم وتصرفاتهم في دائرة من المسألة الاجتماعية او الحرية الاعتيادية المقيدة بالنظم والقوانين والحقيقة ان القوانين. والنظم لها حظ من الاصلاح، في انها تعود الفرد والمجتمع السير في الحدود المرسومة التي أرتأى المشرعون او المصلحون الصلاح في السير بمقتضاها، لان الاصلاح الحقيقي ما كان يستهدف اصلاح النفس وتهذيب السريرة، وتربية الخلق والنية الحسنة والفكرة الطيبة في الافراد، لان هذه اذا صلحت صلحت الاعمال والتصرفات الصادرة عنها بطبيعة الحال، ولذا كان العمل على اصلاح هذا الجانب منوطاً بمهمات ووسائل اهم واكبر بمكان من وظيفة التربية الروحية والدينية والثقافية، والاداب والاخلاق، وكلما تقتضيه الحياة الحضارية والمدنية، فهذه هي التي تخلق روح الفرد، وتطبع سيرته بطابعها وتوجهه الى اهدافها وغاياتها بأيمان منه ورغبته واختياره وان يتحدد تصرف الفرد ضمن خشيته طائلة العقاب، الذي يفرضه عليه القانون عند المخالفة وانتهاك الحدود.
المواطن الصالح هو من يندفع الى العمل الصالح برغبة وشوق واختيار، وهو يجد لذة روحية او لذة عقلية حين يقوم بعمل طيب من خدمة اجتماعية او تضحية وطنية او معاونة للضعيف او تخفيف لالآم المنكوبين او نجدة لمستغيث، او رد ظلم ورفع مكروه، او انقاذ لمبتلى بمحنة وبذل كل عون في كل وجه من الوجوه التي تعرض للفرد، او المجتمع، يقوم بكل ذلك وليس القانون هو الذي يدفعه اليه بل الوازع النفسي والضمير الحي والمواطنة الصالحة التي يستشعر بها. ان تكوين الفرد الاجتماعي على هذا الشكل، يتأتى من مجموع ما تعمل له الدولة في شتى ميادين الثقافة والتربية والتعليم والدين ووسائل البث والنشر والارشاد والعلوم على اختلافها، وذلك ما تعمل له مؤسسات واجهزة مختلفة تتعاون وتترابط لتكوين (المواطن الصالح) وتقاس نهضة الامم والشعوب وتقدم الدول والاقاليم ورقيها بحسب ما تبلغ اليه من نجاح في هذه الوسائل والاهداف، وقد يكون من اولى ما يعين على بلوغ الهدف بالنسبة للفرد وللمجتمع هو شيوع (الشعور بالمسؤولية) في الامة او البلاد او الشعب او الاقليم، فان الفرد اذا شعر بمسؤوليته الشخصية والاجتماعية كان ذلك رمز التقدم الاجتماعي والاصلاح العام الذي تنشده، فيجب ان تربى في الفرد من الصغر روح المسؤولية والشعور بالمسؤولية، ويجب ان يشعر الطفل والشاب والكبير، انه مسؤول عما يعمل، وانه مطلوب منه الصدق في العمل والاستقامة في السلوك، وتأدية الواجب على احسن وجه، انه مطلوب منه سواء طالبه الغير به ام لم يطالبه ام راقبه وليه او المسؤول عنه ام لم يراقبه، ام حوسب عليه ام لم يحاسب، بل يفعل ذلك عن طبيعة مختارة ووازع نابع من اعماق نفسه، حتى تصبح هذه الصفة عادة راسخة وسجية اصيلة لا يمكن ان يتخلى عنها في وقت من الاوقات.
هذه المسؤولية فيما يتعلق بشخصه وعمله، ويقوم بمسؤولية اخرى هي مسؤولية المجتمع والوطن فالفرد يشعر ويؤمن ايماناً راسخاً ان مصلحة الفرد بمصلحة المجتمع، فالمصلحة الاجتماعية هي العليا وهي الغاية وان لضمان هذه المصلحة والعمل لها تحقيقاً ضمنياً لمصلحة الفرد، فيجب ان لا يتسامح فيها وكل فرد قيم على مجتمعه، فالشريعة الاسلامية تقول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).. لذلك اذا تعلق الامر بتهديد مصلحة المجتمع وقوانين المجتمع واخلاق المجتمع من قبل اهل الشر والارهاب والفتن، فيجب الا يسكت احد اذا انتهكت الحرمات المحصنة بالقوانين والشرائع والاعراف الطيبة، وليس هذا بواجب الشرطي او موظف الامن، او موظفي القضاء فقط بل يرتبط بكل فرد من موقعه وفي بيته.. فاذا وقعت جريمة او اعتدء (اي اعتداء كان) فليس الكشف عن ذلك وتعقيب الجاني او الارشاد اليه من عمل رجال الامن والقضاء فقط بل واجب ذاتي لكل فرد ولكل مواطن صالح، لان مسؤولية المجتمع تقع على الجميع، فعلى المواطنين ان يكونوا يداً واحدة في كل ما يعود على الشعب بالصلاح لان التعاون في هذا واجب اجتماعي وديني ووطني، وبمقدار هذا التعاون يكون تقدم الشعب وسعادته وطمأنينته واستقراره، وبذلك يمكن القضاء على نيات اهل الشر والاجرام والارهاب وسد كل المنافذ امامهم وبالتالي اندحارهم وسحقهم وزوالهم وخلاص البلاد منهم الى الابد.