قراءة في قصيدة الشاعرة : سلوى علي – العراق ( بلقيسٌ أنا ) .
تبقى القصيدة هي المرآة التي من خلالها نتمكن من رؤية العوالم الداخلية للذات الشاعرة , وتبقى القصيدة التي تكتبها الأنثى قصيدة مشفّرة , تحمل رموزًا قد لا تستطيع الشاعرة أن تبوح بمكنونات ذاتها علنّا , لذا تلجأُ الى تشفيرها , وصياغتها بما يتناسب مع رؤياها وأفكارها وتطلّعاتها , فتحاول أن تجتاز الحواجز التي وضعتها البيئة والمجتمع في طريقها , وقد تلجأ الذات الشاعرة الى استخدام القناع وتوظيفه بما يتلاءم مع ما تريد التصريح به , كي تتمكن من التعبير عما تريد قولهُ , وإيصال صوتها الى المتلقي , صوتًا عذبًا واضحًا غير مشروخ , لتجعل المتلقي يتشوّق , وتمحنه فسحة ليحلل ويؤّل ما تحمله القصيدة من دلالات ورؤى وافكار . كثيرًا ما نجد الذات الشاعرة تتقمص شخصية معينة تستلهما من التراث , وتحاول ان تتكلّم على لسانها , وتتخفّى ذاتها الشاعرة وراء هذه الشخصية , وتبوح وتصرّح بما تريد التصريح به , ونرى من خلال نسيجها الشعري طغيان وحضور هذه الشخصية , واستمرارها على مساحة كبيرة من هذا النسيج , وهذا ما لمسناه في قصيدة الشاعرة : سلوى علي – بلقيسٌ أنا , فلقد استحضرت شخصية ( بلقيس ) من التراث وعادة بالمتلقي الى الماضي , في هذه القصيدة نجد انصهار الذات الشاعرة مع الذات الاخرى ( بلقيس ) , منذ عنوان القصيدة , فهنا ارتبطت الذات الشاعرة / أنا / مع شخصية الذات الاخرى / بلقيس / , وانسحبت الذات الاخرى / بلقيس / لتشمل كلّ أجواء نسيجها الشعري , وهذا ما يمكن أن يُطلق عليه بالقناع , فعادت بنا الذات الشاعرة الى الماضي , وقامت ببناء هيكلها الشعري مستمدّة قوّة هذه الشخصية , ومدى تأثيرها في نفس المتلقي , لقد استطاعت أن تخلق لنا شخصية قريبة من ذاتها , تستطيع عن طريقها ان تعبّر وتكشف عمّا تريد قولهُ بحرّية , وهذا ما يشدّ المتلقي الى هكذا قصائد مقنّعة , تتكلّم بصوت الذات الاخرى , وتطرح أفكارها عن طريقها , متماهيًة معها , متخفية وراءها , رغم ان شبح / بلقيس / يبقى حاضرًا وبقوّة .
وبالعودة الى قصيدة الشاعرة : سلوى علي – بلقيسٌ أنا , نجد قوّة الشخصية المتماسكة والواعية والشجاعة والمؤمنة والمحبّة والحالمة بالسلام والطمأنينة , تبدأ الشاعرة قصيدتها السرديّة التعبيريّة هذه وهي تحلّق بعيدا في سماوات الجمال واللغة العظيمة , في سردٍ يبتعد كثيرا عن مفهوم السرد الحكائي المتعارف عليه , سرد تتجلّى فيه طاقات اللغة , المشحونة بالإيحاء والرمز , والابهار وتجلّي واضح لعوالم الشعور والاحساس , فها هي تقول / أتيتُ مِن مدن الشمس احملُ بينَ كفيَّ عناقيدًا مثقلة بقُبَلِ الفجر , أمام بواباتٍ تذرت رُطبها للحظاتِ المبتورة في أتون الأعماق / , / الوّحُ بقرنفلات الطُهر خارج امتداد مواسم الفقد المصلوبة على فصاحة الحكمة , وارغفتي كغابات التفاح فوق شِفاهِ الجمر , تعصرُ اوزار ألف حكايةٍ مبلّلة بالأرق فوقَ شِفاهِ حقول التمرّد / .. نلاحظ هنا كيف قامت الشاعرة بتعظيم طاقات اللغة , وتكثيفها وانزياحاتها العظيمة المبهرة , وتعود تحلّق بعيدًا في سماوات الابداع وهي تصوغ قناديلا مضيئة من كلماتها ../ لأدغدغُ صدر السنين بخطوات سرمديّة كدرويش مطعون يعزفُ عند أقاصي الوجد بين ربوتين بفيض الرغبة وسط عواء اودية نهر باكٍ / , هنا تجعل الشاعرة من مفرداتها تدغدغ روح المتلقي وتُيرهُ شغفه لمتابعة قصيدتها , ومعرفة مكنونات الذات الشاعرة البعيدة , وتعبّر عن هواجس النفس الدفينة , ولكن عن طريق الذات الاخرى / بلقيس / , وتبقى الروح الشاعرة ../ تنتظرُ هدهداً يُهدهدُ نوافير الكلمات كلّما صرخت زنابق حضارة البحر , مَنْ يأتيني بهِ , ليبعث رعشة مِن كاهل اليقين لخواء يئنُ بين ذاك الترف الملكي لمواسم مفجوعة الامنيات , علّها تغرز بذور التمنّي بين أراجيح أدغال الانتظار / , فتستمر الذات الشاعرة ومن وراء / القناع – بلقيس – الذات الاخرى بسرد همومها ولواعجها وتطلّعاتها , وعمّا يدور في اعماقها , وما يستغور بعيدًا في عوالم ذاتها الابداعية الخلاّبة , فنرى من خلالها مقاطعها النصّية المتخمة بالمفردات الموحية بالكثير العوالم الداخلية لها , وهذا ما نطلق عليه التعبيريّة في القصيدة السرديّة , أنّ قصيدة الشاعرة جاءت على شكل كتلة مترابطة ومتآصرة مِنَ الفقرات النصّية المتخمة بالإيحاء , وطغيان الخيال الخصب , فكلّ مقطع نصّي نجدهُ يتكون من مفردات تحمل الكثير من الايحاء والمشاعر والاحاسيس , كتلة متوهّجة قامت بصياغتها الشاعرة عن طريق مفردات موحية مُثقلة , بدون تشطير او ترك فراغات بين هذه الفقرات النصّية , ولا حتى ترك نقاط متعددة بين الكلمات , جاءت بطريقة سرديّة بعيدة جدا عن السرد المتعارف عليه , فالشعر ينبعث من خلال النثر , النثر الذي لا يعني الحكاية ولا القصّة , لقد جاءت قصيدتها على شكل كتلة نثرية واحدة متماسكة , وهذا ما ندعوه بالقصيدة السرديّة التعبيريّة .
أنّ شخصية الذات الاخرى / القناع – بلقيس / كانت حاضرة منذ البداية , فعنوان القصيدة ابتدأ بـ / بلقيس / شخصية القناع الذي تخفّت وراءه الذات الشاعرة , في قدّمت شخصية / القناع – بلقيس / على ذاتها حين تكلّمت قائلة / بلقيس / ثم اكملت عنوانها بذاتها هي / أنا / , واستمرت الأنا المقنّعة والمتمثّلة بشخصية / بلقيس / تروي لنا هواجسها وأحلامها وتطلّعاتها ومعاناتها , ولقد كانت / بلقيس – القناع / حاذرة عن طريق الافعال المضارعة التي بدأت بها مقاطعها النصيّة / أتيتُ – بلقيس / الوّحُ – بلقيس / أدغدغُ – بلقيس / تنتظرُ – بلقيس / , لهذا فأنّ شخصية / القناع / تحقق وجودها على طول نسيج الشاعرة الشعري . لقد نجحت الشاعرة ومن خلال قصيدتها السرديّة التعبيريّة هذه أن تستخدم / القناع / وتنطق بدلًا عن شخصية القناع – بلقيس وتحلّق عالياً في سماوات بعيدة من الابداع الفذّ .
القصيدة :
بلقيسٌ أنا..
أتيتُ مِنْ مدنِ الشمس أحملُ بينَ كفيَّ عناقيد مثقلة بقُبلِ الفجر، أمام بوابات نذرت رُطبها للحظات المبتورة في أتون الأعماق . ألوّحُ بقرنفلات الطُهر خارج امتداد مواسم الفقدِ المصلوبة على فصاحة الحكمة ، و أرغفتي كغابات التفاح فوقَ شِفاه الجمر ، تعصرُ أوزار الف حكاية مبلّلة بالأرق فوق شِفاه حقول التمرد . أدغدغُ صدرَ السنين بخطواتٍ سرمديّةٍ كدرويشٍ مطعونٍ يعزفُ عندَ أقاصي الوجد بين ربوتين بفيضِ الرغبة وسط عواء أودية نهرٍ باكٍ . تنتظرُ هدهدًا يُهدهدُ نوافيرَ الكلمات كلّما صرختْ زنابق حضارة البحر ، مَنْ يأتيني بهِ ، ليبعثَ رعشة مِن كاهل اليقين لخواء يئنًّ بين ذاك الترف الملكيّ لمواسم مفجوعة الأمنيات ، علّها تغرزُ بذورَ التمنّي بين أراجيح أدغال الانتظار.
…………
سلوى علي /العراق – السليمانية.
مُرفقان (2)