18 ديسمبر، 2024 8:55 م

القناعةُ أمِ الملايين!

القناعةُ أمِ الملايين!

لا أذكر الآن كيف أُتيح لي أن أذهب إلى زيارة (فلان) في يومٍ مضى، ولكنني أذكر أنني انصرفت من مجلسه، وأنا أحمد الله من قلبي على السلامة من كل ما هو فيه، حتى الثروة.. وحتى الملايين. إنني قد أرحب بالثروة وكل إنسان يرحب بها ـ ولكن على أن لا أشتريها بوقتي كله وبجهدي كله .. أي بحياتي.. إنني أريد أن أهب بعض هذه الحياة لذوقي، وبعضها لواجباتي ولما ترتاح إليه نفسي.. لا أن أهب هذه الحياة كلها للفاتورة والبضاعة والمخزن، والسعر، والبنك والباخرة التي وصلت عليها الدفعة الأولى من الحديد والأسمنت

والرسوم.. والضرائب .. وإدارة الميناء.. والملفات التي يقدمها إلى أكثر من موظف في وقت واحد .. ثم .. ثم .. القلق الدائم الذي تسببه حياة كهذه، لا سيما إذا كانت الظروف العالمية مشحونة بالمفاجآت .. ثم الهياج العصبي  أولاً وأخيراً كلما اضطرب سوق العملة، أو ماطل عميل في التسديد، أو حصل خطأ في كشف الحساب.. أو أي سبب ولو كان تافهاً كخيانة موظف.. أو صديق ! لقد أخذت فكرة عن شيء كهذا يوم كنت في زيارة الشيخ فلان صاحب الملايين. كان مجلسه ـ باختصار حافلاً بأسباب الثروة والنعيم، ولكنه كان في هذا المجلس نفسه محاطاً بأسباب العناء.. منها اثنان أو ثلاثة ومع كل منهم ملف في يده، وقصة الملف على لسانه لصدور الأمر بما يجب.. ومنها أنا . وهذا وذاك .. من زوار (فلان) وفيهم من يستطيل الاقامة ومعه غالباً قصة (عشم) ورجاء.. وفيهم من يستطيلها بدافع المحبة فقط، ومنها أنه هو نفسه في الغالب على موعد مع أحد المسئولين، وقد أعطى موعداً لآخر في نفس الوقت الذي حل وهو في كرب عظيم من الأوراق والموظفين والمشاكل وحضرات الزوار، أي بلاء هذا .. ؟ لقد قلت لصديقي الذي كان معي أو كنت معه ـ في هذه الزيارة:

هل تتمنى أن تكون فلاناً ؟ فأشرقت أساريره .. وارتفع حاجباه تحت نظارته قائلاً: هل هذا سؤال ؟ ألا تتمنى أنت أن تكون لك ثروته وملايينه؟! قلت إنني أكره على أي حال أن أدفن نفسي مقدماً قبل الموت. ثم إن المقصود هو أن تكون فلاناً .. لا بثروته وحدها .. بل بها، وبعقله وعواطفه وبمزاياه وبكل ماله وما عليه .. فصمت طويلاً .. ثم قال : لا … وهكذا يبدو أن كلاً منا لا يكره أن يجمع المزايا الطيبة التي يحبها ويتمناها، ويغبط أو يحسد من يتمتعون بها ولكنه يكره ذلك كما أظن إذا كان سيفقد نفسه وعقله الذي تفاهم معه طويلا حتى ولو كان منحرفاً ومزاجه الذي تعوّده ولو كان سخيفاً بل.. وسحنته التي عرف

نفسه وعرفه الناس بها ولو كان يتمنى أن لو لم تكن له هذه السحنة ..ولسانه الذي ينطق به ولو كان من نوع لا يُحسد عليه، وأخلاقه التي لازمته كالظل حتى ولو لم يكن مهذبا ! إن هذا ربما كان يجب أن يترتب عليه أن يؤمن كل منا بواقعه فلا تزوغ عينه إلى اليمين أو إلى اليسار، أو إلى ثروة فلان او مجد علان. اي ان يبدو الإنسان

راضياً قرير العين بما هو فيه دائما.

ومن هذا فإن أمنية من طراز أن يكون الانسان من أهل الملايين هي مدار رغبات وأحلام أكثر الناس، ولذلك فان كلاّمنا لا يرضيه واقعه، ويتمنى دائماً أن يكون غير ماكان .. حتى الذين تبدو التخمة عليهم مما قد يسيل له لعاب الآخرين لا تَمّلُ أحلامهم من التطلّع إلى المزيد ولو ادت التخمة إلى الانفجار او إلى ان يواريهم التراب.