19 ديسمبر، 2024 2:45 ص

القمع السلطوي وترسيخ اللامبالاة في الذات العراقية

القمع السلطوي وترسيخ اللامبالاة في الذات العراقية

أحد ركام التحليلات والتنظيرات المطروحة الآن في الساحة الفكرية والسياسية العراقية ، هي محاولة الكشف عن أسباب التراجعات الانهزامية المتلاحقة للأنظمة/السلطات التي حكمت العراق الحديث والمعاصر واستسلامها أمام تعسف الآخر الحضاري واستعلائيته.

هناك اتجاه يؤكد ويركز على أن هزيمة الإنسان/المواطن العراقي هي أحد المحاور الرئيسية إن لم تكن المحور الرئيسي الذي تقوم عليه التراجعات الحالية . ويطرح هذا الاتجاه:- أن طول مدة كبت الحريات الجماهيرية وتغريبها وعزلها عن المشاركة الفعالة في العمل السياسي والاجتماعي هو ما أدى إلى ضعف الأنظمة/السلطات العراقية وبُناها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مواجهة تعسف الآخر/الكولونيالي . وبالنتيجة تصل تنظيرات هذا الاتجاه إلى المطالبة بإطلاق الحريات الديمقراطية في العراق وإطلاق طاقات الجماهير التنظيمية وحشدها في معركة طويلة مع هذا الآخر.

لانختلف مع أصحاب هذا الرأي في حقيقة أن الجماهير العراقية مكبلة (ومازالت) وتتعرض إلى قمع سلطوي واحتلالي يمنعها من تنظيم نفسها بشكل حر . كما لانختلف مع هذا الرأي أيضاً في أن تكبيل الجماهير العراقية وتعطيل طاقاتها لن يؤدي إلاّ إلى المزيد من التراجعات والاستسلام لهذا الآخر وتابعه السلطة المعينة من قبله . ولكننا نود أن نأخذ وجهة النظر هذه إلى آفاق أبعد بحيث لاتتوقف عند حدود وصف الظاهرة وأعراضها دون الخوض في الأسباب التي أدت بالإنسان العراقي إلى وضع الهزيمة وبالجماهير العراقية إلى حالة السلبية واللامبالاة التي نشهدها.

بالتأكيد إن هناك قمع سلطوي عندنا ، هذه حقيقة واضحة لالبس فيها ولاغموض ، ولاينكرها إلاّ كل مكابر ومنافق وقزم … لكن الحقيقة الأكثر وضوحاً وتأكيداً وتجسيداً ، هي أن هذا القمع ليس بالأمر الجديد ولا بالواقع الحديث النشوء والتكوين . لقد كان هناك قمع سلطوي مسنود حتى بحراب جيوش هذا المتعسف الآخر وعملائه الداخليين (أحداث 1991) وإذا كانت السلطات العراقية المتعاقبة (1921 – الآن) لاتسمح بتنظيم الجماهير ولاتسمح بتشكيل الأحزاب السياسية ولا النقابات ولا الاتحادات بالشكل الدستوري الرصين ، فإن هذا ليس بالأمر الغريب علينا ، والواقع أن الغريب والمستهجن هو أن نصل إلى مرحلة المطالبة بهذه الحقوق من هذه السلطات ، وأن من يطلب هذه الحقوق من هذه السلطات التي مازالت قائمة… هو كالمستجير من الرمضاء بالنار. علماً أن هذه الحقوق لم تكن يوماً موضع مساومة أو استجداء بل لابد من الحصول عليها بالفعل.

ـ لكن ، أليس غريباً ومستهجناً أن يصل الأمر بنا إلى حد المطالبة بالحقوق واستجدائها ؟ أليست هذه هي الهزيمة الحقيقية للإنسان العراقي؟

لاأعتقد إننا نختلف في أن الإنسان العراقي كان أحسن وضعاً وأكثر مقاومة وأفضل استجابة للتحديات المفروضة في الماضي القريب مما هو عليه الآن . ففي الماضي القريب لم يفكر الإنسان العراقي ولم تفكر الجماهير العراقية في استجداء هذه الحقوق بل عمدتها بنضالاتها وعملها السياسي والتنظيمي.

لم يستطع القمع السلطوي في الماضي هزيمة الإنسان العراقي ولاقتل طاقاته التمردية والثورية ، كما أن وجود الآخر الكولونيالي وقواته العسكرية في الأرض العراقية لم يمنع الجماهير العراقية من الثورة ضد الاضطهاد القومي والاجتماعي ، وبالعكس من ذلك ، فكلما ازداد القمع السلطوي وقمع الآخر كلما اشتدت حدة المقاومة الجماهيرية واتسعت نضالاتها وتعمقت ثوراتها .. فعلى الرغم من إقرارنا ببشاعة القمع السلطوي والعقبات الكبيرة التي يضعها أمام الجماهير إلاّ أن هذا القمع ليس هو السبب الأساسي في هزيمة الجماهير وحالة اللامبالاة التي تعيشها.

إن أحداث العراق الأخيرة تقدم لنا الدليل الواضح على أن القمع السلطوي ليس القشة التي تقصم ظهر المد الجماهيري بل إنه القشة التي تقصم ظهر القمع السلطوي ذاته . لكننا مع ذلك نسأل:- لماذا يهزم الإنسان العراقي ، ولماذا تنحسر موجات العمل الجماهيري العراقي ؟ ثم لماذا السلطات عندنا في العراق جميعها قمعية ؟ ولماذا تمارس قمعها ضد الجماهير ؟ ولماذا يزداد ويتكشف ويتسع ويتعمق القمع السلطوي والاحتلالي الآن ؟ لايمكن فصل أو عزل الإجابات على هذه الأسئلة عن بعضها البعض . إن كل الظواهر التي نتكلم عنها والمتمثلة بالقمع السلطوي ، وازدياد حدته وآثاره على الإنسان العراقي والجماهير العراقية هي ظواهر متشابكة ومرتبطة بعضها بالبعض الآخر . وإذا أخذناها كمجموعة ظواهر متشابكة فلابد أنها تعكس جوانب مختلفة لواقع مادي يعمل على إفرازها وتجسيدها . وهذا الواقع المادي هو بالتأكيد البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة في العراق . غير أن هذه البُنى لاتنبع من فراغ بل تقوم على مجموعة من الأسس المادية المتمثلة بأنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة في العراق.

إن الأمر الأساسي في أي مجتمع بشري هو الطريقة أو الأسلوب أو الكيفية التي ينتج فيها الأفراد أنفسهم والأجيال اللاحقة من بعدهم . ومن هنا ، فإن أي تغيير في طرق أو أساليب إنتاج المجتمع لنفسه تنعكس بالتأكيد وبالضرورة على مجمل البُنى المختلفة فيه وتنعكس بالتالي على الإنسان الفرد وعلى الجماهير بشكل عام.

لم يكن من الممكن أن تلحق الهزائم بالإنسان العراقي منذ تأسيس دولته وحتى الآن .. ولا أن تنحسر النضالات الجماهيرية العراقية لو لم يحصل هناك تغييرات في الأسس المادية للمجتمع العراقي . كذلك ، لم يكن للسلطات المتعاقبة في العراق أن تزداد قمعاً وتسلطاً وإرهاباً لو أنها لم تجد الأسس المادية التي ترتكز عليها لممارسة هذا الدور . إذ لو أن هذه الأسس لم تتوفر لما توفرت الظروف الذاتية والموضوعية للوصول إلى مرحلة الهزائم الحالية ، ولكانت الجماهير العراقية قد ثارت منذ سنين طويلة ، كما اعتادت على مر تاريخها ، ولقامت بتغيير الأوضاع القائمة والانتصار عليها . لكن السنوات الماضية شهدت سيلاً متتابعاً من التغييرات أدت بالأوضاع إلى ماهي عليه في الوقت الحاضر:- قمع سلطوي واحتلالي ، وهزيمة الإنسان الفرد ، ولامبالاة أغلب الجماهير العراقية.

إن تحليل التغيرات المادية التي حصلت في العراق في السنوات الماضية وتتبع المسارات والمنحنيات التي سلكتها ، ومراقبة الإفرازات التي أنتجتها ، سيقدم لنا صورة واضحة عن الطريقة التي تم فيها تدجين الإنسان والجماهير ليترك الميدان مفتوحاً لهراوات السلطة.

دعونا ننظر إلى ماحصل في العراق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الوقت الراهن . كانت التشكيلة والبنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة من النوع التقليدي ، بمعنى أنها كانت مجتمع بشري ذو طابع إنتاجي واقتصادي شبه طبيعي . فقد كانت القطاعات الغالبة في هذا المجتمع تعتمد على قواها الذاتية في إنتاج متطلباتها الأساسية والمحدودة في ذات الوقت ، كماً ونوعاً . كان على هذه القطاعات أيضاً أن تعيش في ظل قمع سلطوي يفرض عليها أن تقدم جزءاً من نتاجها للطبقات أو الطبقة المسيطرة.

وعلى ذلك ، فقد كانت التركيبة الاجتماعية العراقية من نوع التركيبات الحية المنتجة المفعمة بالروح والتي تمتلك بذور الحياة في أحشائها . ولذلك ، وبرغم القمع السلطوي المسنود بالحراب الاستعمارية ، فإن الروح الثائرة في هذه التركيبة الاجتماعية كانت تدفع الجماهير للمقاومة والانخراط في صفوف التنظيمات الجماهيرية المختلفة بما فيها تلك التي تبدو وكأنها تطرح أيديولوجية غريبة عن التراث السائد . لقد كانت الجماهير بحسها الطبقي والوطني تتلمس طرق الثورة والتمرد ، ولم يكن لهذه الجماهير أن تتمتع بهذا الحس الطبقي والوطني المتمرد لو أنها لم تكن منخرطة في عملية إنتاج حياتها اليومية.

إن هذا النوع من الجماهير ، أي تلك المنخرطة في خلق حياتها بشكل يومي ، ومن خلال التعامل مع الواقع الموضوعي – الطبيعي والاجتماعي – الذي تعيش ضمنه ، هي الجماهير المؤهلة للانخراط في التنظيمات الجماهيرية دفاعاً عن حقوقها.

إن التاريخ يخبرنا ، أن الجماهير الثائرة هي الجماهير المنتجة والمشتغلة والتي تعيش حالة الاستغلال وتعيها وتقاسي منها وتدرك أن هناك من يسلبها نتاج عملها.

ويخبرنا التاريخ أيضاً أن (المواطنين الأحرار) في روما الذين كانوا تجمعاً بشرياً عاطلاً عن العمل ومترفاً إلى أقصى حالات الترف ويعيش على حساب جهد عبيد روما ، لم يستطيعوا الوقوف في وجه غزوات البرابرة الذين أحرقوا روما على من فيها . ولم يفد هؤلاء (المواطنون الأحرار) كل المحاولات التي بذلها بعض أباطرتهم بمنح (المواطنية) لعبيد روما ، إذ كان السيل قد بلغ الزبى.

وتدلنا أحداث التاريخ المعاصر على أن الثورات لم تنضج ولم تنجح وتعطي ثمارها إلاّ حين كانت تتوجه إلى الجماهير المسحوقة المنتجة المتعرضة للاستغلال . أما الجماهير التي كانت قد تعرضت إلى حالة استلاب سلختها عن واقعها وفصمت ارتباطها بواقعها الموضوعي فإنها كانت ، آخر من استجاب للتحديات المفروضة وآخر من وصل إليه نداء الثورة واستجاب لها.

الواقع العراقي في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية لم يكن بعيداً عن خصائص الواقع الإنتاجي ذي التوجه الداخلي المتطلع نحو الانعتاق والانطلاق في طريق التقدم . ولذلك ، فقد استقبل هذا الواقع شعارات تلك

المرحلة الداعية إلى الثورة ضد استعمار الآخر والانعتاق من الاستغلال والتخلف والتسلط وتحرير الثروات الوطنية ، استقبل هذه الشعارات بحماس شديد واستعداد كبير للالتفاف حولها والنضال من أجل تحقيقها . وفي تلك المرحلة كان هناك قمع سلطوي رهيب وكانت هناك قلاع عسكرية استعمارية ، وكانت هناك أيضاً سطوة كبيرة لكبار ملاّك الأراضي وحلفاءهم من منظري الفكر الرجعي . لكن كل ذلك لم يطفئ جذوة الثورة ولم يقتل روح التمرد ولم يدفع بتلك الجماهير إلى حالة اللامبالاة واستجداء الحقوق من السلطات السائدة . لقد كان الرد على القمع السلطوي هو المزيد من النضالات الجماهيرية والعمل التنظيمي ولم يكن خنوعاً واستجداءاً وتمسحاً بالأعتاب.

إن الإنسان الفرد أو الجماهير التي تضع لنفسها أهدافاً خارج القدرات والإمكانات المتاحة في ظل المستوى الحضاري الذي تعيش فيه ، وفي ظل المرحلة التاريخية التي يمر بها مجتمعها تكون في الواقع تعمل على كتابة وثيقة موت مجتمعها.

إن لكل وضع اجتماعي قدراته وإمكاناته التي لايستطيع تجاوزها ولاتقديم مايفوق طاقته . وبذلك ، فإن كل مطلب جماهيري لايتلائم ومعطيات هذا الواقع لابد وأن يقود إلى انهيار مجمل التركيبة الاجتماعية بما فيها تحويل الأفراد أنفسهم إلى مغتربين ومستلبين وفاقدين للقدرة على التمييز.

إن محاباة عفوية الجماهير في مثل هذه الحالات لن يقود إلاّ إلى التفريط بأعز وأثمن ما تملكه هذه الجماهير ألا وهو وجودها كتجمعات بشرية تربطها علاقات إنسانية وبنى اجتماعية حافظة لتراثها وحتى وجودها الفيزياوي على وجه الأرض.

إن مانطرحه هنا لايعني أننا نرفض المطالب الجماهيرية برفع مستواها المعاشي وتحسين أحوالها وإيجاد فرص العمل والتقدم لأفراد المجتمع . لكننا نؤكد على ضرورة أن يكون كل مايحصل في هذا المجال نتاج جهد داخلي وعملية تنمية شاملة لاالجلوس على بئر نفط وبيع محتوياته.

والإنسان العراقي إنسان كغيره من البشر لايميزه عن الآخرين سوى مجموعة الظروف الاجتماعية والثقافية التي ينشأ في ظلها . فهذا الإنسان لايمشي على أربع ، كما أنه لايملك أربع عيون . ولذا فان الإنسان العراقي ينتمي فيزياوياً إلى العنصر البشري لاالحيواني حيث أن كل المتطلبات الفيزياوية للانتماء إلى الجنس البشري متوفرة فيه . وهذه الخصائص والميزات الفيزياوية هي أبدية الطابع ، بمعنى أنها لاتتغير في العادة لكن الإنسان ليس وجوداً فيزياوياً فقط بل هو وجود اجتماعي أيضاً، وما لم يكن للوجود الإنساني الفيزياوي أبعاده الاجتماعية البشرية ، فإنه ينحط إلى مراتب دون إنسانية . غير أن هذا الجانب الاجتماعي للوجود البشري هو الذي يتغير ويتبدل بشكل دائم تحت تأثير المتغيرات المادية التي يعيش الإنسان في ظلها . وينعكس هذا التغير على نمط وسلوك الفرد والمجتمع وتعاملهما على الكفاءة التي يتعاملون بها مع المعطيات الاجتماعية والطبقية . وينعكس هذا التبدل في الجانب الاجتماعي على مجمل العادات والتقاليد والنظم الاجتماعية السائدة وأشكال التعامل الاجتماعي.

إن ماحصل في المجتمع العراقي في العقود الماضية منذ ظهور النفط وحتى الآن ، هو أن الجانب الاجتماعي في حياة إنسان هذا المجتمع ، أخذ بالتغير بصورة متسارعة . وقد كان هذا التغير يسير في اتجاه تعميق دونية الإنسان والمجتمع العراقي وسلخ الكثير من خصائصهما الاجتماعية البشرية.

في ظل هكذا واقع لاننتظر إلاّ ظهور إنسان عراقي مستلب عاطل عن العمل المنتج ، مغترب عن بيئته وتراثه ، وغريب عن هذه الأرض . فالواقع الاجتماعي المعاصر في العراق لايبعث على أي فعل إنتاجي ولاعلى أي فعل خلاّق وحيوي على أي مستوى آخر كان ، اللّهم إلاّ من جانب أولئك الذين يملكون درجة عالية من الوعي.

والفرد الذي يعيش طوال حياته منذ ولادته وحتى وفاته على مجموعة معطيات لايفعل بها ولايتفاعل معها ولايملك القدرة على تطويعها ولاحول له ولاقوة إزاءها ، لايمكن في النهاية أن يغيرها أو حتى أن يرتبط بها. إن تغيير الواقع الاجتماعي والموضوعي يستدعي ويتطلب توفر عنصر الارتباط بين الأفراد وبين الواقع الذي يعيشون في ظله . وهذا الارتباط ليس ارتباطاً وهمياً أو رومانسياً أو عاطفياً أو فوق اجتماعي أو فوق طبيعي ، بل هو الارتباط النابع من حاجة الفرد لهذا الواقع وتكامله معه وتحقيق إنسانيته من خلال التفاعل الحر الخلاّق معه.

إن مفاهيم الأرض والوطن والتحرر والاستقلال والتراث والكرامة وسواها ، هي مفاهيم واقعية مادية ذات تجسدات اجتماعية ، وخارج كونها كذلك ، فإنها لاتعني أكثر من مجموعة خصائص فيزياوية توفرها الطبيعة أو مجرد ألفاظ لاتثير في النفس أو العقل أي أثر.

إن الأرض هي معطى مادي فيزياوي في الأساس سواء كانت شمال العالم أو جنوبه ، أو شرقه أو غربه، لكنها ، أي الأرض ، تتخذ قيمتها الفعلية ووضعها الصحيح من خلال أن الإنسان يعيش عليها ويتفاعل معها وتشكل جزءاً من وجوده وضمان استمرار هذا الوجود للكائن الفرد والأجيال اللاحقة من بعده ، وحين لاتتوفر مثل هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض ، فإن الأرض تفقد قيمتها ولاتعود تعني أكثر من كونها معطى طبيعياً مستقلاً وقائماً بذاته.

لكن أي قيمة يحتفظ بها الفرد للأرض حين لايعود هذا الفرد قادراً على التعامل معها وإنتاج حاجياته منها؟

إن الحيوانات أياً كان نوعها ومكان تواجدها تستطيع العيش على ماتقدمه بيئتها من معطيات جاهزة بحيث أن الأرض التي تعيش عليها تشكل لها مصدر غذائها ومصدر استمرار بقائها وتناسلها . لكن أي قيمة تبقى للإنسان حين يعجز عن ممارسة حتى تلك الفعاليات التي تمارسها الحيوانات ؟ ثم أي معنى يبقى للشعارات عن الأرض والوطن حين تنفصم العلاقة بين الإنسان والأرض ويصبح كل منهما مغترباً عن الآخر ؟ أي معنى يبقى للأرض حين تصبح سلعة نؤجرها لفترات من الزمن محدودة ونعيش على ريعها ، ثم أي تكوين اجتماعي هو ذلك الإنسان الذي يصل فيه إلى مرحلة الانفصام والانقطاع عن أرضه وبيئته وتراثه وماضيه؟

هذه الغربة عن الواقع والانفصام عن التراث والماضي لايمكنها أن تخلق إنساناً ملتزماً وملقحاً ببذور الثورة والتمرد ، ولايمكنها أن تمنح الفرد الروح الباحثة عن الخصب الذاتي والاجتماعي ، كما لايمكنها أن تفرض تلك القيم الاجتماعية التي لايمكن تحقيقها خلال التفاعل الاجتماعي الإنتاجي.

إن هذا الواقع الاجتماعي الاقتصادي القائم هو سبب الهزيمة والسلبية الحقيقية للإنسان العراقي المعاصر وسبب اللامبالاة الجماهيرية وغياب روح التمرد والثورة . وهذا الواقع لم يأت من خارج الوطن أو خارج هذا العالم بل كان نتيجة لمجموعة المتغيرات المادية التي حصلت على أرض هذا الوطن ومازالت تحصل . ومما سهل لهذه المتغيرات المادية أن تأخذ أبعادها الواسعة وأن تصل إلى جوهر الإنسان العراقي الفرد ، هو غياب الوعي القادر على تنظيم الجماهير وكشف الحقائق أمامها.

ولذلك ، فإننا نرى أن القمع السلطوي لايمكن أن يفعل أكثر من تأخير وقت انطلاقة وتفتح بذور الثورة والتمرد لدى الجماهير والإنسان ، وإن هذا القمع كائناً ما كانت سلطته وجبروته لم يستطع على مر التاريخ أن يقتل روح الإنسان.

إن الخطر الأكبر الذي يتعرض له الإنسان العراقي هو قتل ذات بذور التمرد وقتل ذات روح الثورة . وهذه البذور وتلك الروح لاتقتل إلاّ من خلال تحطيم الواقع الإنتاجي للمجتمع العراقي وتحويله إلى أكداس من البشر تتحرك وتركض وتلهث وراء لقمة الخبز دون أن يكون لكل حركتها وصراخها وتناسلها معنى.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات