18 ديسمبر، 2024 7:03 م

القمة العربية تقدم عبد الله الثاني «عنواناً للعرب»؟

القمة العربية تقدم عبد الله الثاني «عنواناً للعرب»؟

القمة العربية في البحر الميت فرصة أخيرة. الظروف التي يعيشها العالم العربي لا تحتاج إلى شرح. والتحديات الداهمة استثنائية وتحمل مخاطر لا تواجه ببيانات تعودت الشعوب العربية سماعها بعد لقاءات على هذا المستوى ودونه. لا يفيد الكلام والخطابات في تبديل الصورة. انقلب المشهد في السنوات الأخيرة. وبدا في السنة التي تلت قمة نواكشوط أن المنطقة تقترب من استحقاقات حاسمة. الحديث عن التسويات يسابق النيران التي لا تزال تلتهم أجزاء واسعة من بلدان عربية. فيما يتعثر الانتقال السياسي في بلدان أخرى على وقع ضربات الإرهابيين والتدخلات من كل حدب وصوب. شكلت قمة بيروت العام 2002 محطة مفصلية بتبنيها مبادرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز لحل القضية الفلسطينية. كان هذا التطور الأبرز على وقع طبول الحرب التي كانت إدارة الرئيس جورج بوش الإبن تقرعها في أفغانستان وتعدها للعراق تحت شعار محاربة الإرهاب. وكانت الدول العربية ترزح تحت ضغوط جمة بعدما اجتاحت الغرب موجة من الاسلاموفوبيا. كان لا بد من تغيير الخطاب حيال القضية المركزية التي لم تدفعها اتفاقات أوسلو إلى تسوية نهائية. ولكن بعد عقد ونصف عقد واصلت إسرائيل الهرب من استحقاقات السلام المعروض عليها. فهل تشكل القمة الحالية محطة مفصلية في هذه القضية وفي القضايا الأخرى المشتعلة؟ لا مبالغة في أن السنة الحالية ستحدد مصير النظام العربي برمته. بل لعل الأيام المقبلة التي ستلي نهاية الحملة على «داعش» في الموصل والرقة ستقدم صورة واضحة عن مستقبل الإقليم.
ما بعد الموصل والرقة ليس وحده ما سيقرر المستقبل. تبدلت الأوضاع في السنة الأخيرة. هناك إدارة أميركية جديدة بدأت تنهج سياسة مختلفة تماماً عن سياسة الإدارة السابقة. تبدو عازمة على مزيد من الإنخراط. يتضح هذا من الحرب على الإرهاب التي تقودها في كل من العراق وسورية، ومن العزم على مواجهة تمدد إيران. مما أتاح لها تعزيز حضورها العسكري في المشرق. فيما تصاعد النفوذ الروسي، ليس في دمشق فحسب. بل تفيد تقارير من واشنطن ودوائر إعلامية من موسكو ان الكرملين يسعى إلى أن تكون له اليد الطولى في المنطقة كلها. لعله يحقق ما عجزت عنه إدارة المحافظين الجدد في بناء «الشرق الأوسط الكبير»، من الشمال الإفريقي إلى أفغانستان! ونظرة إلى الخريطة تبين مواقع اهتماماته بلا اجتهادات وتحليل. هو طرف دولي أساس في ليبيا حيث يسعى من وراء دعم الفريق خليفة حفتر إلى دفعه للإمساك بكل البلاد. وحاضر في اليمن لأداء دور من خلال التأثير في موقف الحوثيين وشركائهم في الداخل والخارج. ولا يحتاج دوره في سورية إلى شرح. والجديد أخيراً ما كشف عن دوره في دعم «طالبان». كأن روسيا تريد الانتقام من الولايات المتحدة التي كانت وراء إخراج القوات السوفياتية من هذا البلد العصي على التدخلات الأجنبية. ولا حاجة إلى التذكير بعلاقات موسكو مع القاهرة وعواصم عربية أخرى. وقد لا تتردد في بناء تحالف متين من أفغاستان إلى لبنان وفلسطين مروراً بإيران والعراق وسورية إذا تعذر التفاهم بينها وبين إدارة الرئيس دونالد ترامب.
عشية اندلاع «الربيع العربي»، خرجت أصوات من قمة سرت العام 2010 تحذر من تردي الأوضاع في عدد كبير من الدول العربية. ونادى بعضهم بالالتفات إلى عنصر الشباب في عصر ثورة المعلومات ووسائل التواصل التي كسرت كل الحواجز والجدران، وشلت أيدي الحكومات والأنظمة وأجهزتها. وإلى إصلاح الخلل في توزيع الثروة، والحد من آثار العولمة على الطبقات الفقيرة التي ازدات فقراً. إضافة إلى غياب العدالة وتفشي الظلم والفساد. كان ثمة شعور بأن العاصفة تقترب. وأن موجة الديموقراطية التي اجتاحت العالم بعد سقوط الحرب الباردة، من آسيا إلى أميركا اللاتينية مروراً بأوروبا الشرقية وأفريقيا، لا بد أن تمر بالمنطقة وإن بدت عصية لسنوات. وغني عن الشرح ما آلت إليه هذه الموجة. تبدلت أنظمة، لكن الحراك لم يحقق طموحاته في التغيير المنشود. بل لعل أخطر ما واجه ويواجه العالم العربي اليوم هو تشظي الدول الوطنية إلى كيانات وهويات طائفية ومذهبية تتصارع في حروب أهلية مدمرة. وبرز بوضوح عجز الجامعة عن مواجهة التحديات. فالدول الفاعلة التي يمكنها أن تقودها أصيبت هي الأخرى ولا يزال بعضها يشتعل، ولغة التدمير هي أداة التواصل الوحيدة بين مكوناته. وهذا ما سهل التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية التي أفادت من انكفاء الولايات المتحدة عن المشرق وعزوفها عن التدخل الفاعل لجملة من الأسباب التي باتت معروفة. وهكذا جهدت دول الجوار العربي إلى ملء الفراغ الذي خلفته سياسات الرئيس السابق باراك أوباما. وهو ما عقد ويعقد مهمة الساعين إلى تسويات بين القوى المحلية المتصارعة. إذ أن معظمها تحول وكيلاً في الحروب الدائرة، وباتت قبلته هذه العاصمة أو تلك.
ما يجعل القمة في الأردن فرصة أخيرة أن النظام العربي لم يبق منه شيء وقد لا تقوم له قيامة بعد اليوم إذا استمر هذا الغياب القاتل، أو أشيح النظر عن أفواج المهاجرين والفارين من أراضيهم. أو صمت الآذان عن سماع أصوات الملايين الذين فقدوا ثقتهم بنخبهم الحاكمة. صحيح أنه لم يقم نظام إقليمي عربي صريح، منذ تأسيس الجامعة، بتوافق دولها وإرادتها. ولكن كان هناك نوع من التفاهم الناظم للعلاقات ومراعاة المصالح الإقليمية والدولية. لقد توزعت الدول العربية بين المعسكرين أيام الحرب الباردة، وحتى بعد قيام منظومة دول عدم الانحياز. وحالت التوجهات الإيديولوجية أو السياسات المختلفة بين دولة وأخرى دون ترسيخ مفهوم عسكري واضح وملزم يصون الأمن العربي. وتعرضت العلاقات العربية – العربية لشتى أنواع الصراعات، منذ قيام التيار الناصري ثم البعث والثورات العسكرية في عدد من البلدان. وتفاقم التباعد أو الانقسام بعد الغزو العراقي للكويت. وشكلت هذه المغامرة ضربة قاصمة للحد الأدنى مما سمي طويلاً «التضامن العربي» و»المصير المشترك». وكادت الجامعة أن تفقد صفتها حتى قبل هذا التاريخ على وقع نشوء منظمات جهوية. أنشيء مجلس التعاون الخليجي العام 1981 على وقع طبول حرب الخليج الأولى والدعوات إلى «تصدير الثورة». ثم أعلن اتحاد المغرب العربي العام 1989. وتبعه في العام نفسه قيام مجلس التعاون العربي. وقد تزعزعت أركان المنظمتين الأخيرتين على وقع الغزو العراقي ثم حرب تحرير الكويت. وجاء سقوط الحرب الباردة ليفقد أنظمة عربية عدة سندها السوفياتي فباتت مكشوفة بلا غطاء.
أقدمت الجامعة على التدخل لإحداث التغيير في ليبيا، لكنها عادت وانكفأت أو عجزت عن مواصلة التدخل. وتركت «الجماهيرية» في عهدة قوى تتصارع لحساب هذه الدولة العربية وتلك فضلاً عن قوى أخرى من روسيا إلى تركيا وبعض أوروبا. وتحولت مصدراً لتهديد جيرانها بما تختزن من عتاد عسكري وعناصر إرهابية موزعة الولاءات. وعجزت الجامعة عن فرض وحدة الفصائل الفلسطينية التي تعددت ولاءاتها هي الأخرى بين قوى عربية وإيرانية وتركية… مما سهل على إسرائيل مواصلة مشروعها في ابتلاع ما بقي من فلسطين. ولا يحتاج الوضع في اليمن إلى شرح. وطال الغياب العربي عن العراق. ولم تستطع الجامعة انتزاع دور في سورية. وهكذا بات البحث عن التسويات على طاولة القوى الكبرى ودول الجوار العربي، من إسرائيل إلى إيران وتركيا في غياب العرب! ففي حين توكأت طهران لمد نفوذها في الإقليم على القوى الشيعية، اعتمدت أنقرة على الشراكات الاقتصادية لكن هذا التوجه سرعان ما اعترضته السياسة التي نهجتها حيال التغييرات الطارئة في أكثر من بلد عربي. ولم تنجح حتى الآن مع تبدل سياساتها في إبراز قدرتها على اقتطاع ما تريد من الأرض العربية. وتكاد تفقد علاقاتها مع الدول الأوروبية نتيجة المواقف المتصلبة والهوجاء التي يطلقها الرئيس رجب طيب أردوغان بين حين وآخر. وهو يعزز تحالفه مع موسكو في محاولة للضغط على شركائه التقليديين، أركان حلف الناتو. لعبة تدفعه إلى خسارة حلفائه القدامى من دون أن يكسب روسيا. لعله سيدرك لاحقاً أنها تستخدمه ورقة في مواجهتها مع الغرب عموماً.
لا يخطىء الناظر إلى صورة الأزمات في تحديد مسؤولية العرب أيضاً. صحيح أنه لا يمكن قمة واحدة أن تعالج إرثاً من المشاكل عمرها سنوات بل عقود. ولكن لا يمكن هنا أن يعفي القادة أنفسهم من المسؤولية ورميها على الخارج الزاحف إلى المنطقة بلا عوائق. أن الدول العربية نفسها تتواجه أيضاً وتتصارع في أجندات مختلفة، من الموقف حيال قوى الإسلام السياسي وبعض تنظيماته وأحزبه، إلى تونس والعراق مروراً بليبيا ومصر واليمن وسورية وفلسطين ولبنان. لئلا نشير إلى تفاقم الصراع المذهبي السني – الشيعي الذي مزق ويمزق الهويات الوطنية لحسابات خارجية أكثر منها داخلية. هذا التعدد والتصادم في المواقف العربية سهل ويسهل على المنخرطين في تقاسم خريطة الإقليم أن يسألوا عن «عنوان» عربي واحد يجب أن يكون حاضراً في آستانة وجنيف، ونيويورك وواشنطن وموسكو وغيرها. قد لا تكفي المصالحات عشية القمة وأثناءها. فهل يقدم القادة هذا الأسبوع في الأردن، توأم فلسطين والمقيم على التخوم الجغرافية والتاريخية لسورية والعراق وشبه الجزيرة، على تثبيت القيادة الأردنية للجامعة هذه السنة «عنواناً عربياً» جامعاً، أي شريكاً لا يمكن القوى الكبرى ودول الجوار تجاهله بعد اليوم؟ لعلها فرصة أخيرة أمام العرب لتحويل لقائهم منعطفاً نحو توكيد الحضور العربي في كل ما يمس مستقبل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. ولا تعوز الملك عبد الله الثاني القدرة على تمثيل هذه الشراكة بما له من علاقات واسعة مع جميع الأطراف، خصوصاً المتصارعين على الإقليم، وبما يملك من مفاتيح لأبواب ظلت مفتوحة أمامه شرقاً وغرباً. فهل تكون قمة البحر الميت «قمة عبد الله» كما كانت قمة بيروت قبل عقد ونصف «قمة عبد الله»؟
نقلا عن الحياة