ثمة تبدلات وتغيرات واضحة وملموسة في مجمل المشهد العام في كل من سوريا والعراق، بعد قرار روسيا التدخل والدخول على الخط بقوة، ومغادرة خيار الاكتفاء بالمراقبة والتفرج لما تفعله الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها واتباعها.
بدت الاسابيع الخمسة الماضية مختلفة في ايقاع احداثها عن فترة طويلة سبقتها امتدت لمايقارب العام ونصف العام.
في الجانب المتعلق بالمشهد السوري، الحقت الضربات المركزة والدقيقة لسلاح الجو الروسي خسائر مادية وبشرية كبيرة جدا بصفوف تنظيم داعش الارهابي والجماعات الارهابية الاخرى، ووفرت للجيش السوري هامشا واسعا للتحرك وتضييق الخناق على الارهابيين في معاقلهم، وهذا ما لم يحصل بهذا المستوى والحجم طيلة الاعوام الخمسة الماضية من عمر الصراع في سوريا.
بعبارة اخرى، اسهم الدخول الروسي القوي والفاعل على خط الازمة السورية في تعديل موازين القوى لصالح النظام الحاكم، وهو ما اقلق الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الدوليين والاقليميين الى ابعد الحدود، وقد انعكس ذلك واضحا من خلال المواقف السياسية المتشنجة، والحملات الاعلامية المضادة لموسكو.
وفي الجانب المتعلق بالمشهد العراقي، فأن الاعلان عن تشكيل مركز التنسيق الاستخباراتي المشترك بين كل من العراق وروسيا وايران وسوريا، الذي تزامن مع متغيرات الوضع السوري، كان له دور واثر مهم في زيادة زخم العمليات العسكرية ضد داعش، وجعلها اكثر دقة وتركيزا لتلحق اكبر قدر من الخسائر بالدواعش، وتقلل الى حد كبير معدلات الخسائر في صفوف القوات الامنية العراقية والتشكيلات الداعمة لها من الحشد الشعبي وابناء العشائر.
ومثلما انعكست المتغيرات الايجابية السورية على المشهد العراقي، فأن المتغيرات الايجابية العراقية انعكست على المشهد السوري، لاسيما وان داعش الذي تلقى الضربات القاصمة على الجانبين، واجه مأزق فقدان مواطيء القدم والقواعد الخلفية التي يحتاجها لالتقاط انفاسه واعادة تنظيم صفوفه حينما يمنى بالهزائم في الميدان.
وهناك اتفاقا-او شبه اتفاق-على ان الحضور الروسي غير المسبوق في المنطقة رسم واقعا جديدا وراح يهيأ الارضيات لحقائق ومعطيات جديدة على الارض.
ولعلنا-لاسيما في العراق-في خضم مظاهر ومؤشرات واتجاهات لايمكن بأي حال من الاحوال التغاظي عنها وتجاهلها، بل لابد من ان يضعها اصحاب الشأن وصناع القرار نصب اعينهم.
واول تلك المظاهر، هي ان موسكو باتت قريبة جدا من بؤر الازمات الاقليمية، بل انها اصبحت في قلب تلك الازمات الى جانب واشنطن، التي تسعى جاهدة الى ان تحتكر دور اللاعب الدولي الرئيسي في المنطقة وتتلاعب بأوراقها كيفما تشاء.
من الصعب جدا على واشنطن ان تحتمل وجود لاعب رئيسي اخر، يكون فاعلا ومؤثر الى جانبها، مثل موسكو، لان الاخيرة ستنافسها على الهيمنة والنفوذ من جهة، ومن جهة اخرى، ستفضح الكثير من اساليبها الملتوية ومناهجها الخاطئة، ومواقفها الازدواجية والانتهازية، والتي طفح الكثير منها على السطح خلال الصراع مع تنظيم داعش الارهابي وعموم الجماعات الارهابية المسلحة، سواء في العام الاخير او الاعوام السابقة له.
ولاشك ان اظهار واشنطن نوع من الجدية في ضرب اوكار داعش مؤخرا، قد يبدو خطوة للمزايدة على موسكو، والتقليل من حجم الانتقادات الموجهة للسياسات الاميركية من قبل اطراف وقوى سياسية عراقية وغير عراقية عديدة، ناهيك عن الرأي العام، وقد نقل عن اوساط سياسية عراقية، قول السفير الاميركي في بغداد ستيوارت جونز على تساؤلات تهكمية اطلقها بعض الساسه العراقيون، حول مغزى قيام الولايات المتحدة في الاونة الاخيرة توجيه ضربات جوية قوية ودقيقة لاوكار تنظيم داعش في الانبار وصلاح الدين، “اننا كنا نجمع المعلومات ونضع ونهيأ الخطط المحكمة لضرب الارهاب في الوقت المناسب”!.
ومع بروز النتائج الايجابية للدور الروسي في سوريا، راحت الاصوات تتعالى من محافل واوسط سياسية عراقية مختلفة، بضرورة ان يكون لموسكو دور مماثل في العراق، وان لايقتصر دورها على جمع وتبادل المعلومات في اطار مركز التنسيق الاستخباراتي.
وبادرت الحكومة الروسية الى التأكيد على انها مستعدة لان تدعم وتساند العراق في حربه ضد تنظيم داعش متى ما طلبت منها الحكومة العراقية ذلك، وعلى ما يبدو ان الضغوط الاميركية والاجواء السياسية والاعلامية المضادة لاي دور وحضور روسي في العراق، من قبل اطراف سياسية معينة لها اجندات وحسابات خاصة تمثل نسخا من اجندات وحسابات اطراف اقليمية ودولية، جعلت الحكومة العراقية تتردد في الطلب رسميا من موسكو تقديم الدعم والمساعدة بقتال داعش، وهذا ما اكدته جهات مطلعة على مايدور خلف الكواليس والاروقة السياسية الخاصة.
بيد ان الحضور الروسي في العراق، ومثلما ترى نخب وشخصيات سياسية من اطياف وتوجهات مختلفة، بات خيارا مهما، في ظل التلكوء والمماطلة الاميركية، وحاجة العراق الى اسناد خارجي اقليمي ودولي يكون اكثر مصداقية وجدية.
وترى تلك النخب والاوساط السياسية، ان واشنطن تعاطت طيلة فترة العام والنصف العام المنصرمة مع خطر تنظيم بأزدواجية ونفاق وانتهازية، وفي بعض الاوقات صرحت بوضوح انها “لاتنوي القضاء على داعش نهائيا، وتخطط لتحجيمه واضعافه فحسب”، ربما انطلاقا من مصالحها، او ارضاء لبعض اصدقائها وحلفائها في المنطقة مثل السعودية وتركيا وقطر. لذلك فأن الاستفادة من الامكانيات والقدرات الروسية، كطرف دولي، الى جانب ايران، كطرف اقليمي، في مواجهة تنظيم داعش، ستكون له انعكاسات ايجابية ملموسة، كما حصل في سوريا.
تلقائيا، سيخلق الحضور الروسي في العراق وعموم المنطقة مزيدا من الاحتكاكات غير المرغوبة بين واشنطن وموسكو، فضلا عن قيام قوى واطراف اقليمية بوضع العصي في الدواليب، بيد ان المفيد في الامر، ان ذلك الحضور من الطبيعي ان يحجّم بقدر ما الحضور والتأثير الاميركي، في ذات الوقت يمكن ان يرغم واشنطن على اظهار قدر اكبر من الجدية، ولو من باب ذر الرماد في العيون.
ومن غير المستبعد ان تشهد مرحلة ما بعد الحضور الروسي في المنطقة والعراق، مشاكل مختلفة، لكنها في كل الاحوال لن تكون اكبر مما تواجهه في ظل الانفراد الاميركي، والتامر الاقليمي.
ولاشك ان محور (موسكو-بغداد-طهران-دمشق)، سيكون اكثر جدوى وفاعلية وجدية ومصداقية من محور (واشنطن-لندن-الرياض-انقرة-الدوحة).