هناك مثل مصري يقول “أنت تنفخ في قربة مقطوعة” وهي عبارة شهيرة في مصر. العبارة تعني أنك تبذل جهداً ضائعاً أو غير مجدٍ في محاولة لإنجاز شيء مستحيل أو إصلاح أمر لا يمكن إصلاحه. فالقربة المقطوعة لن تمتلئ بالهواء مهما نفخت فيها.
والقربة هي وعاء مصنوع من جلد الماعز أو البقر، يُستخدم تاريخياً لحفظ وتبريد الماء، خاصة في المناطق النائية التي لا تتوفر فيها الكهرباء. كما يمكن استخدامها لحفظ اللبن الحامض.
عن طريق الصدفة جالسني شخص لم أكن أعرفه من قبل. أعرب عن سعادته في التعرف عليّ وكان قد قرأ الكثير من مقالاتي وأوضح اعجابه بها. عرج في خضم حديثه إلى الأوضاع السياسية والسياسيين واشتكى كثيراً بأنهم لم يحيطوه برعايتهم. قال أنه لم يستفد من السياسيين الذين تسلقوا على أكتاف المستضعفين. وأنا أحاول معرفة نوعية الحاجة التي جاء بها وما هو مطلبه من السياسيين والنواب وجدت أن ليس له مطلباً معيناً فقط يريد الاستفادة التي هو أيضاً لا يعرف ماهيتها.
استرسلت له بالحديث بأن السياسة شيء والجمعيات التعاونية الإنسانية شيء آخر. وفي سياق الحديث تطرقنا إلى بعض الأمور الخلافية في الجامعة السياسية وبينت له أن المال له دور كبير في جل الخلافات التي تشهدها الساحة السياسية. لتقريب الفكرة له استحضرت قولا مشهوراً لـ (مولانا جلال الدين الرومي) القائل “صداقة الكلاب تدوم حتى ترمى بينهم العظام”. كنت أنوي أن أبين لهذا الشخص الذي أجهل حتى اسمه بأن الدنيا أصبحت دنيا المصالح وما دون ذلك يعتبر أمور ثانوية. فالكل يكذب، لا المطرب العاطفي عاشق ولا المذيع المتحمس يحب وطنه والجميع يلهث خلف المال وما يتمكن من جمعه خلال اعتلاله لكرسي المنصب. فالتقييم اليوم هو بما يحصل عليه لا بما يفعله من انجازات وتغيرات يفيد بها المجتمع.
وأنا غارق في الحديث والبيان وتقديم الأمثلة وإذا به يقاطعني قائلاً: كلامك على رأسي.. لدي جار عنده كلب صغير أليف وقد تربى الكلب على يده. اليوم وجدته وقد ألقى الكلب خارج البيت وقد تخلى عن تربيته. الكلب المسكين الأن لا يجد ما يأكله. ولو لا كوني وحيداً في البيت لأخذته عندي وقمت برعايته فإنه مسكين”..
آثرت السكوت والاستماع مستذكراً المثل المصري “أنت تنفخ في قربة مقطوعة” فالأمر ميؤوس منه تماماً وليس لنا أن نخاطب الناس إلاّ بقدر عقولهم. فإصلاح آلة مكسورة ليس بالأمر الهين ولا تحل بالكلام فحسب. فالحديث للعقول الفارغة كالنفخ في القربة المقطوعة..
لقد صدمني جوابه صدمةً لم أكن أتوقعها.. نصف ساعةٍ من الحديث المتواصل، بذلتُ فيها كل جهدي لأبسط فكرتي وأقربها وأجعلها واضحةً كل الوضوح، لكن دون جدوى. كنتُ أغرد في وادٍ سحيق وهو في وادٍ آخر تماماً، وادٍ لم تصله ترانيمي ولم يصله صدى كلماتي.
أيقتُ حينها أنه لا جدوى من المضي قدماً في هذا الحديث، فقد اكتشفتُ للأسف أن هذا الشخص لا يمتّ إلى أفكاري بصلةٍ ولا يقترب منها ولو قيد أنملة. عند هذه النقطة، أدركتُ أن الصمت أبلغ وأن التوقف عن الكلام هو الخيار الوحيد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات