وعدنا القارئ الكريم أن نخصص مقالاتنا القادمة للحديث عن قانون العفو العام ، الصادر و النافذ من تأريخ صدوره من مجلس النواب العراقي بتأريخ 25/8/2016 ، خاصة و أن هذا القانون شأنه شأن أي معطى بهذا الحجم يتعرض إلى عمليتين متناقضتين من التعاطي السياسي و الإعلامي و الشعبي ، و هو ما حصل بالفعل ؛ فهنالك من عده نصر و إنجاز ؛ و آخرون ذهبوا إلى أن مصيبة وقعت على رؤوس الناس جراء هذا القانون ، مؤكدا لا قيمة لمناقشة الآراء المتطرفة اليمينية أو اليسارية ، إلا أن هنالك مقدمات عامة للحديث عن الموضوع جديرة بالإشارة قبل بدأ حلقات الحديث عن تنفيذ هذا القانون … الشيء الأول هو سرعة تعاطي مجلس القضاء الأعلى مع هذا القانون ، فلم يدم إلا يوم واحد حتى أصدر المجلس تعليماته بتنفيذ قانون العفو ، عبر تشكيل لجان مختصة و مصنفة ؛ الشيء الآخر هو الحد الفاصل بين الجدل التشريعي و الوحدة القضائية ، و هذه الأخيرة ينبغي الإسهاب في الحديث عنها ؛ فالكل لاحظ حجم الجدل و الخلاف في إعداد و مناقشة و التصويت على هذا القانون ، و ليس هذا القانون فحسب ، بل كل القوانين من هذا الحجم و من هذا النوع ، و جل هذا الجدل يدور حول منهج و تصورات الأطراف المشرعة ، و في هذا السياق تتضح مدى التقاطعات الفئوية المستندة إلى الرؤى القومية و الدينية و الطائفية و الحزبية ، هذا الجدل يقابله وحدة القضاء ؛ أي عملية التطبيق التخصصية من قبل الجهة المعنية بتحويل نص هذا القانون إلى أحكام و قرارات ، و هذا يثير بوضوح أهمية ما سنعبر عنه ( بوحدة المصلحة الوطنية ) و هذا المبدأ لن يتضح ألّمْ نفترض أن الجهة التشريعية و التنفيذية لو أنها عملت بمنهج وطني و باليات تخصصية أكان العراق بحاجة إلى ضرورة إجراء عفو عام في كل فترة ؟ لو أن مفهوم العدالة بالمعنى التشريعي و التنفيذي كانت منطلقاته وطنية أكنا نعفو عن المخالفين للقانون في المجالات و المستويات المختلفة ؟
أعترف أن الموضوع الذي نلج فيه الان فيه من التعقيد و التركيب الشيء الكبير، إلا أن المصالحة التي هي الهدف من وراء تشريع قانون العفو العام و قوانين و اعمال أخرى ، في الحقيقة لا تتحقق بالمعنى الحقيقي لها عبر هذه الأليات المرحلية أو يمكن التعبير عنها بوضوح أكبر بـ ( الاجراءات الترقيعية ) ، فتطبيق القانون و إقامة العدالة عبر هذا التطبيق هي أساس المصالحة و الحق ، فكيف تتحول أهداف هذه القوانين إلى الضد النوعي لها ! فمن يسعى هذا القانون الى العفو عنهم ؛ هم في الحقيقة مدانون وفق القانون ، فلماذا يدينهم قانون و يعفو عنهم قانون !؟ ليس للأمر علاقة بالمغفرة عن المخطأ ، و هي صفة ينبغي أن تتحلى بها كل دولة ؛ بل كما قلنا ترتبط بمشكلة بنيوية في البناء التشريعي و التنفيذي في الدولة العراقية ، فذات المشرع و المنفذ و هنا الحديث عن البناء الكلي و ليس عن الذوات ، هو الداء و الدواء
الموضوع لا ينتهي هنا ؛ بل أن أبرز مواجهاته و هو محل حديثنا و اهتمامنا ، هو وقوع السلطة القضائية في هذه المعادلة المعقدة ، فالقضاء العراقي و هو مؤسسات تخصصية عملت بكل جهدها و وعيها على صيانة كيانها من الوقوع في حفر مصالح المحاصصة البغيضة ، بحكم دورها الوظيفي و التكاملي مع السلطتين التشريعية و التنفيذية ، تجد نفسها لإكثر من مرة مهددة و معرضة لخطر القادم لها من الخارج ، أي الخارج التشريعي و التنفيذي ، أكرر مرة أخرى أن الموضوع يرتبط بالمنهج و ليس بل الأفراد ، و هنا لكل مراقب و متابع أن يتدبر موقف مجلس القضاء الاعلى عقب التصويت على قانون العفو العام ، فبمجرد إكمال التصويت : أعلن المجلس عن تعليمات تطبيق القانون و قام بكل ما عليه ، إمتثالا لدوره الدستوري و التخصصي ، و هو بهذا يعبر مرة أخرى عن حدود وظيفته كمؤسسة عدالة تلتزم بما بين يديها من قانون ( عدالة عبر القانون ) ، على أن تتحول إلى واقع عبر المؤسسات التنفيذية
و هذه الأخيرة للأسف واحدة من ابرز المواطن التي تتعرض بسببها المؤسسة القضائية الى الطعن بسببها ، و لا غرابة أن تجد من يتهم القضاء بالسماح بهرب فاسد الى خارج البلد و كأن المطار مؤسسة تابعة لمحكمة النزاهة ، أو كأن هذه المحكمة تملك جيش لإعتقال من يثبت فساده !