بعد أن نجحت القوات المسلحة العراقية بإنهاء سيطرة تنظيم داعش على جميع محافظة ديالى و صلاح الدين و اغلب محافظة الانبار و أجزاء من محافظة نينوى ، و باستثناء المتبقي من محافظة كركوك ( الحويجة ) و ما تبقى في منطقة أعالي الفرات في غرب الانبار ، لم يعد أمامها إلا تحرير مركز محافظة نينوى ( مدينة الموصل ) و يعلن العراق تحرير آخر شبر من اراضيه من سيطرة التنظيم الإرهابي .
تحرير الموصل لا يعني إنهاء سيطرة التنظيم الإرهابي على هذه المدينة فحسب ، بل يشكل هذا العنوان منعطف تأريخي في حياة الدولة العراقية ؛ فمثلما شكل سقوط هذه المدينة في العاشر من حزيران 2014 ، تحول في حاضر و مستقبل العراق ، كذلك سيشكل تحريرها هو الآخر تحول كبير ؛ و لست هنا بصدد محاولة إثارة أبعاد هذا التحول ؛ فهذا متروك إلى كتابات و مقالات أخرى ، إلا أن قراءة المفهوم الذي صار في الفترة الأخيرة يتحرك بشكل ملفت للنظر هو ما نريد أن نتحدث عنه في هذا المقال ، و هذا المفهوم هو : ( التسوية التاريخية ) ، و يعني به من يقدمه هي عملية ترميم لما هدم من العلاقة الوطنية بين مكونات الشعب العراقي ، على اعتبار أن السوء الذي لحق بهذه العلاقة كان المساهم الأكبر في سلسلة الأزمات الأمنية و غيرها ، و أن كل العمليات العسكرية التي تحرر الاراضي من سيطرة الأعداء ، لا تعدو إلا كونها مرحلة أولى لإجتثاث أصل مشكلة استفحال هذه التنظيمات
مؤكدا أن موضوع من هذا القبيل يشتمل على جوانب متعددة و مستويات مختلفة ، و سنثير كل هذا في سلسلة كتابات قادمة ، و الأن نريد أن نتحدث عن منظومة دولة وطنية تشكل جوهر أي تسوية تاريخية أو مصالحة وطنية ، و هذه المنظومة تتمثل بالبناء التشريعي و الوظيفي لمؤسسات الدولة ، فماذا يعني هذا ؟
هنالك علاقة تبادلية يتحدث عنها جورج اندريه و هو واحد من ابرز منظري الانثروبولوجيا السياسية ، بين الشعب و السلطات ؛ هذه العلاقة إلم تتشكل بطريقة سليمة لن تتحقق نظرية الدولة بالمعنى الجوهري لها ، و تعالوا لندلل على هذا الكلام بمثال عراقي : الكل يعرف نظرية الحواضن ؛ أي مقولة أن الإرهاب وجد له ( حاضنة ) في بعض المناطق العراقية ؛ و هذا السبب الرئيسي في إستفحال ظاهرة العنف ، و في المقابل طرح وزير الدفاع السابق سعدون الدليمي عقب احداث سقوط الموصل الجانب الأخر لهذه النظرية ، عندما قال : ( أن الجيش في الكثير من المناطق العراقية لم تكن له حاضنة ) ، طبعا لا يسع المجال للحديث عن نظرية الحاضنة بشقيها ، إلا أنها مثال حقيقي ؛ على أضطراب العلاقة بين السلطات و بين أجزاء من الشعب ، و بالنتيجة إضطراب بين بعض الشعب و البعض الأخر ، و الأن كيف يمكن إجراء تسوية تأريخية لرفع هذا الاضطراب و سوء العلاقة هذه ؟
الجواب و بقوة و مباشرة : ينبغي أن تكون الدولة دولة ، نعم هذا كل ما على الجميع أن يفعله ، أن يوجدوا الدولة ؛ و لكن لماذا عنوان المقال ( القضاء و تحرير الموصل )
لإن السلطة القضائية عنوان من عنوانات الدولة ، فالدولة هي مؤسسات تخصصية بناءا و وظيفة ، و عندما لا يحل هذا لن تكون الدولة ، السلطة القضائية لا تقول هذا بل تعمل عليه و تريد أن تبقى هكذا و تطالب الأخرين أن يفعلوا ذلك ، فهي و عبر تجربتها البنائية ( التشريعات و التأسيسات و التعيينات ) عملت و تعمل على أن المحاكم و المؤسسات القضائية الأخرى تخصصية تكتب قوانينها و تأسس اجهزتها و يعين مسؤوليها بمنهج الدولة ، و ليس لإعتبارات ترتبط بجهاد او تضحيات هذه الجماعة أو بشأنية هذا المكون أو بإي إعتبار أخر ، و أن الهويات الاثنية و المذهبية و الحزبية ليس لها صلة بالكامل في البناء و الوظيفة القضائية ، و هذه المعادلة هي الطريق الذي يحقق علاقة سليمة بين الشعب و السلطات ، عندها يشعر كل فرد أنه ابن الدولة فيكون حاضنة لمصالحها ، و هكذا تكون الدولة خيمة للكل ؛ و النتيجة علاقة سليمة بين مكونات الشعب من جانب آخر و هذا هو أساس المواطنة و المصالحة الوطنية أو التسوية التاريخية