بنظرة فاحصة على واقع العراق اليوم يتبين لنا ان التخلف يضرب في طول البلاد وعرضها، لا يستثني اي جانب من جوانب الحياة، فكل جانب يحتاج الى جهود جبارة لتعديل حاله، ولاريب ان القضاء يقف في مقدمة ما يحتاج الى الاصلاح، كونه على تماس مباشر مع احوال الخاصة والعامة، في عظائم الامور ودقائقها.
مرَّ القضاء العراقي بفترات عاصفة منذ عام 2003، احداث زلزلت بنيانه وصدعت اركانه، وكان اول ذلك ما حصل في “مجزرة القضاء” التي ارتكبها بول برايمر “الحاكم الأمريكي للعراق” وذلك باحالة نحو 250 قاضيا على التقاعد دفعة واحدة.
ثم تعرضت القضاء لاختبارات عديدة اجتاز بعضها على مضض وفشل في اخرى فشلا ذريعا, فمجزرة ساحة النسور وحادثة عرس الدجيل ومجزرة الحويجة, نماذج لما وصل اليه القضاء العراقي من تخلف واعوجاج, دون ان ننسى ان دور المحكمة الاتحادية في تفسير النصوص الدستورية اعطى صورة واضحة بحجم التسييس الذي لحق بالقضاء, فمسألة تفسير الكتلة الاكبر, وتحديد ولايات رئيس الوزراء, وصلاحية تشريع القوانين بين مجلس النواب ومجلس الوزراء, شواهد واضحة, ففي كل مرة كانت القرارات تأتي لصالح رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي اتهم بانه طوى القضاء تحت جناحه وجعله تبعا لرغباته.
بيد ان الامتحان الابرز الذي فشل فيه القضاء فشلا ذريعا واصابه في مقتل هو ملف المعتقلين الابرياء الذي زجوا في السجون لسنوات والالاف منهم لم توجه لهم تهم، او الصقت بهم تهم كيدية بطرق ابعد ما تكون عن القانون نصا وروحا، فملف حقوق الانسان في العراق واوضاعه المزرية تعد بحق اوضح شهادة لجعل القضاء متهما بدلا من ان يكون حاكما.
كل ذلك يستدعي عملا مضنيا لاعادة القضاء الى السكة الصحيحة, والدور الاكبر يقع على ممثلي الشعب في المؤسسة التشريعية, فالمطلوب من مجلس النواب ان يضع اصبعه على الداء ويعالجه خطوة خطوة, والواقع فان رئيس البرلمان سليم الجبوري شخص احدى مواطن الخلل في مستهل ولايته عندما قال خلال ترؤسه الاجتماع الاول لرؤوساء الهيئات المستقلة ان “التناقضات التي وردت في قرارات المحكمة الاتحادية بصدد الهيئات المستقلة تحتاج الى تفسير واقعي كونها سببت ارباكا لعمل الهيئات باعتبار ان العراق يمر بمرحلة تستوجب ضمانات حقيقية لمفهوم الديمقراطية” وهو مدعو للاستمرار بهذا المنهج .
ان الدور البرلماني الذي ندعوه له لا يتعارض بحال مع مبدأ الفصل بين السلطات, فهو يهدف لاحداث التوازن المفقود والذي نتج عن هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء, وعمليات التعيين والاقالة المزاجية التي مارسها المالكي بحق عدد من اعمدة القضاء, فالتعاون بين السلطتين التشريعية والقضائية امر لا بد منه, وهو ما اكده رئيس البرلمان خلال لقائه رئيس مجلس القضاء الأعلى مدحت المحمود، حيث بحث الطرفان سبل التعاون بينهما ومبدأ استقلالية القضاء والفصل بين السلطات وهو امر –لاشك- محمود اذا ما اخذت الامور مجراها نحو التنفيذ الجدي.
ولعل انجاز البرلمان للقوانين المتعلقة بالقضاء وفي مقدمتها قانون المحكمة الاتحادية قد يمثل خطوة اخرى في اصلاح هذه المؤسسة التي إذا صلحت صلح البلد كله، وإذا فسدت فسد البلد كله، فمجرد الشعور ان هناك قضاء عادلا نزيها، لا يحابي احدا، ويساوي بين الشريف والضعيف من شأنه ان يرمم الكثير مما دمرته النفوس الخربة التي لاتعيش الا في مستنقعات الفوضى، حين تغيب العدالة، ويصاب اهلها في ضمائرهم.