19 ديسمبر، 2024 2:06 ص

القص والصياغة المفاهيمية لوجود الأشياء

القص والصياغة المفاهيمية لوجود الأشياء

قراءة في المجموعه القصصية (كان ردائي أزرق)
عندما فرغت من قراءة نصوص المجموعة القصصية الجديده ( كان ردائي أزرق) للقاص (جمال كامل فرحان) والصادرة عن المؤسسة العربيه للدراسات والنشر, تذكرت أحد النقاد الإنكليز وهو (جون أور) حيث يقول في معرض حديثه عن حداثة الرواية في القرن العشرين: “لا يكمن العمل الفذ الذي أنجزته رواية القرن العشرين في أظهار أن الرؤية تنتصر على الحقيقة أو أن التجربه تنتصر على الخبرة الإنسانية, بل في إظهار أن العالم, الذي كان فيما مضى مسطحا ثم أصبح لاحقا كروياً, بات اليوم مكعباً. ولا مناص من رؤيته من جميع جوانبه, حتى وان لم تكن هنالك جوانب.”

إن النصوص الثمانيه التي انطوت عليها المجموعة تنسحب على مساحه قصصيه واحده تتمفصل إلى ثمانية نصوص يغلفها الخوف وتستولي عليها سحابه داكنه من الهواجس المحفوفه بالرعب والخذلان والخيبه المتفاقمه للتوقعات المتعثرة. وتلتقي جميع الأبعاد النصيه لهذه المساحه عند محور واحد حافظ القاص ببراعة على استمرارية وجوده عبر صياغه ثمانيه ماكره لمفهوم (الضحيه).

فالضحية ترتكز في “استعارة” على مفهوم فرانكشتايني يطرح الراوي بصفته كولاجا بشريا . . . يستعير يد جسد أخر لتحل محل يده المبتورة . . .ويحيل عنوان النص (استعارة) القارئ إلى احتمالات تأويليه غايه في الثراء: إذ أن القاص يقتنص مفهوم الاستعارة بصفته اعتلالا لغوياً يتماهى مع الاعتلال الجسدي للراوي ذو اليد المبتورة. فتتضافر الاستعارة اللغويه مع الاستعارة الجسديه في جدليه دراميه مثيرة تسبغ على النص ديناميه تأويليه لا تجعله يتلبث عند قراءة واحده حاسمه. فالإضافة تشخص بصفتها احتماليه قائمه على الدوام, والاستعارة بدورها تختزن آليات الإضافة سواء اللغويه منها أو الجسدية بكل غرائبية هذه الإضافة التي لا يمكن لها أن تندرج أو تنصهر تماماً ضمن هوية الأصل أو (المضاف أليه) حتى وان كانت تلك الإضافة منسجمة فسلجيا في الظاهر (وظيفة اليد) مع المضاف أليه, فهي ما انفكت تتشيأ إزاء محيطها في نوع من التطفل اللغوي

أو الجسدي. ويمضي القاص في رصده الممتع للاستعارة كإستراتيجيه للتعاطي مع النقص ببعديه اللغوي المُبتَكر والجسدي الفج وما يفضيان أليه من ابتعاد غير مسبوق عن مألوفية الأصل وفقدان تناغم الكينونه في بعدها الوجودي الذي تبرز من خلاله للعيان ناهيك عن فقدان الهويه وضَلال الانتماء, (حين أداعب نهد جميلتي أو حين ألمسها, أحس بأن أصابعي هي ليست أصابعي.) ص12, (أحاول أن أنام وكفي – كفه – أشدها, أقيدها, أخنقها, تحت فخذي بقوه . . .بقوه) ص13.

وتعود الضحية للظهور مرةً أخرى في النص الثاني (ساعي بريد) لتكون غائبة عن المشهد القصصي الحافل بالصخب, فهي موضوع للبحث, إذ أن الراوي يشرع في رحله دونكيشوتيه عن أبن عمه الذي غيبته إحدى مزابل باب المعظم في بغداد. ويلجأ القاص في هذا النص إلى (القص داخل القص), وهو وان لم يكن إستراتيجية جديدة إلا أن إضافة القاص الخاصه في هذا المضمار تكمن في مفارقة التداخل بين القص الميكروسكوبي والقص الماكروسكوبي: حشر قصة حب طويلة الأمد وميكروسكوبيه في أطار مرجعي أوسع لقصة الرعب والخوف الذي تحول إلى غول بألف رأس يجوب شوارع بغداد وأزقتها.

ومن بين الأشياء اللافتة للنظر في هذه المجموعة القصصية عموما وفي هذا النص تحديدا أن القاص يشرع في تجربة أدواته السردية في حواضن قصصيه متنوعه من حيث الحبكة والشد الدرامي: فأحياناً تتنازع الحبكه جمل مقتضبه تندرج في صفحتين فينجم عن ذلك حضور سردي كثيف ومقلق للقارئ بعض الشيء, كما في (استعارة), وأحياناً أخرى تنسحب الحبكه على امتداد ستة عشرة صفحه من السرد التقليدي والمسترسل بارتخاء يوفر للقارئ, أذا ما جاز التعبير, ما يشبه برهه للتلبث والتريض, كما في (ساعي بريد) و (تضاد/خذلان). إن المتتبع لتجربة (جمال كامل فرحان) القصصيه سيلحظ حتما وجود نوع من الانعتاق السردي في هذه المجموعة أكثر رحابه مما هو عليه حال السرد في مجموعته السابقه (عن المدينة والمطر), بل وأكثر ديناميه اذ بوسعه أن يحتضن سلاسل متراكمه من الفعل الدرامي. فالقاص يستهلك في سرده الكثير من التفاصيل التي يعمل على توظيفها لاحقا في خلق مساحه عريضه تنسرب عبرها الأحداث مسبوغة برؤيه روائيه أكثر منها قصصيه قصيره. وقد يوحي هذا التغيير في الإستراتيجية السرديه بنية القاص الغوص في عوالم الروايه قريباً وهذا ما نتمناه له إن شاء الله.

وتستأنف الضحيه دورها المحوري في النص الثالث (تضاد) محتضنا نصين قصيرين (خذلان) و (صداقه). حيث تشخص الضحيه في كلا النصين بصفتها مركزاً طاردا تاره , كما في خذلان إذ ينغمس الراوي في فوبيا الموت الوشيك والهلاوس البصريه التي عاثت في رأسه بعد أن ذُبِح صديقه بالسكين (أجري وأتصور السكين التي لم تتردد طويلا ولم ترتجف وهي تحز الرأس.) ص35 , أو مركزا جاذبا تارةً أخرى, كما في (صداقه), حيث تأخذ وحدة الوجود الإنساني أفقا رحباً بامتزاجها مصيريا مع كينونة البقاء التي ما عاد (الكلب) المجاور للضحيه يأبه لها وينخرط في سلوك يتنافى مع غريزة البقاء الحيوانيه. فالكلب يقرر البقاء ملتصقاً بصاحبه (الضحيه) بعد أن فرَّ الجميع من هول الانفجار.

ثم يجيء النص الرابع (كان ردائي أزرق) ليضع المجموعه برمتها في عنق زجاجة الأمل الضيق والمخادع. إذ تفلح الضحيه (العم) في الهرب إلى ضفاف حالمه وزرقاء لعالمٍ أخر لكنها لا تلبث أن تقع لسوء الحظ في فخ الحرب, (بعد أيام غنى راديو البيت الأغاني الحماسيه, فجاءت الحرب سريعاً وأبقته هنا, بعيداً عن نوارسه) ص47. ولا تفلت من دائرة الفخ المحدق من جميع الجهات سوى الأحلام المودعه في قناني البيره الفارغه والتي يلقي بأكوامها القاص والعم (الضحيه) في عرض الشاطئ في ممارسه فنتازيه وأحتفائيه الى حدٍ كبير. تستعرض شاشة التلفاز العالم وهو يحتفل مبتهجاً بمقدم عامٍ جديد وشعوبنا ما فتأت تأبى أن تشارك هذا العالم احتفالاته وأعياده الإنسانيه. ويختزن العم جميع ما تبقى لديه من آمال في زي سوبرمان يهديه إلى أبن أخيه (الراوي) ولكنه يفتقر إلى قناع الوجه. ويستحضر هذا الزي للشخصيه الخارقه دلالات شتى ترسم معالم المخيال الجمعي لشعوبنا التي ما انفكت تتطلع للمخلص مرتدياً زي سوبرمان (لا زياً عربياً بيشماغ وعباءة). ولكن تبقى سحنة صاحب الزي مألوفه لدى المنتظرين بعيداً عن غرابة القناع المفقود, فهو سوبرمان بوجه طفل عربي!

أما البعد الخامس لمفهوم الضحيه فيسبكه النص الخامس في المجموعه وهو (قص). فالضحيه هنا هو الراوي نفسه مستسلما لقدرٍ جميل يُختَزَل في فعل (القص). يشتمل هذا النص على رؤى حافله بالمشاهدات المردوفه بفعل الأمر (قص!). ويختزن كل مشهد بذوراً تَعِدُ بالكثير من الخصب اللغوي الذي سيزحف بحبره الأسود على أوراق الراوي البيضاء كما ستزحف الشعيرات السوداء لتطفئ اشتعال الرأس الأشيب. يعد هذا اللعب الماكر بالمفردات شرطاً أساسياً لا مفر منه لكل قاص يروم القص وفقاً لثلاثية جيمس جويس الشرطيه (المنفى, العزله, الدهاء) والتي وضعها بصفتها شرطاً وجودياً يقع عبئ تحقيقه على عاتق الفنان المنكب على أدواته إلى حد

الفجيعه. ويستثمر القاص في هذه المجموعه دهاءه اللغوي وذلك باللعب على دلالات مفردة (قص) بشقيها الفعلي (بضم القاف) والمصدري (بفتح القاف) مما يغني الاحتمالات التأويلية للمفرده. وتتنازع هذه الاحتمالات بنيتي النص السطحيه والعميقه: إذ يطفو على سطح النص القصصي تأويل فعل الأمر (قُص!) بصفته توجيها تأويلياً أول ينجم عنه الاستغراق في فعل مادي يسعى لاستعادة وهم الشباب وتقديم دعوة متأخرة للحب يتشفع لها شعر الرأس بصفته خارطه زمنيه وسيكولوجيه استولت على معالمها جزر بيضاء تعج بالألم وتحيل القارئ الى سنوات طوال من الانتظار والترقب. أما التوجه التأويلي الثاني لنفس المفرده فيستقر في قاع النص مستثمراً مصدرية فتح القاف ليغوص في عمق الوجود الإنساني المدون أو المحكي. فالقَص يأسر القاص ويستولي على شكل وجوده ليحيله إلى وجود لغوي تدويني محض وهو مصير يصر القاص على الاحتفاء به بإصرار رغم جميع المعوقات والمغريات التي تدعوه إلى تبني مصير وجودي من نوع أخر.

وتظهر من جديد ضحيه أنثى سادسه في النص السادس (الساحر الجديد) مختزلاً أحد عشر نصاً قصيراً جداً تخلق في مجملها صورة الضحيه السجينه بين أربعة جدران أقامتها ذهنيه تحريميه تدعي المعاصره. ويطرح هذا النص إشكالية الجسد الأنثوي في المخيال الثقافي العربي بصفته مصدراً للغوايه, (-هو غوايه للآخرين, فلا أريده حراً بعد الآن. كلماته ترن في رأسي لا تفارقني وهو يشير الى شعري, . . .) ص64. أنه شعر الرأس يعاود الظهور مرةً أخرى, كما في النص السابق (قص), في إصرار من القاص على الثراء الدلالي الذي يتمتع به الشَعَر (بفتح الشين) في مرجعياتنا الثقافيه العربيه. فهو يعد من أكثر أشكال التابو الأنثوي أثارةً للجدل في الآونه الأخيره.

ويمد النص السابع (قلوب تنبض) المجموعه بأربع ضحايا أخرى من الإناث دفعةً واحده تحتضنها أربعة نصوص قصيره. تصور ضحية النص الأول (ليست لك) جسداً حياً لكنه مباح بمجانيه أيروكيه للعابرين عليه بابتسار. أما ضحية النص الثاني (اعتراف) فهي زوجه مخدوعه تستسلم لفعل الانتقام الدموي, وفي (أخبار بعيده) تتحول الضحيه الى زوجه غيبت الحرب زوجها خلف نشرة الموت الأخباريه. وسرعان ما تجد نفسها منغمسه في سلوك رافض لديماغوجية النشره الأخباريه فتغلق التلفاز وتنعتق من ربقة الانزلاق في دهاليز الصياغات الأعلاميه المؤدلجه للحرب. وينتهي المطاف بالنص السابع مأخوذاً بثلاث نقلات نصيه ممنتجه

بمهارة لترسم مشهد الفجيعه لجسد فتاة وقد تناولته بالطعن سكاكين الإخوه الحانقين بعد أن همت بالهروب مع عشيقها الراوي المتخاذل.

ويكمل النص الأخير في المجموعه, (زهرة بيضاء), البعد الثامن لمفهوم الضحيه الذي تشكل أبتداءً بجسد حي يعلن رفضه السيكولوجي لليد المضافه جُزافاً للضحيه وينتهي بالنص الثامن في رحله دانتيه لجحيم البحث عن رأس أبن العم الذي تنتظره الجثه المجتزءه عنه لكي تكتمل كوميدية العزاء . . . إذ لا عزاء ولا مراسيم تُقام على شرف جثه تفتقر إلى الرأس (- شلون . . ابن الحاج عامر يندفن من دون رأس.) ص74. ويرتسم في هذا النص خطين متوازيين يشير أحدهما إلى ديمومة الموت والفناء ويشير الأخر إلى الممارسه الجنسيه وحتمية الحب والولاده. ولا يزال هذين الخطين متوازيين وان اقتربا أحياناً للغايه من بعضهما البعض: فالجسد يرتعش بشده سواءٌ عند بلوغ ذروة العناق الجنسي أو عند توجيه الطعنه الأولى لعنق الضحيه الطري وأحياناً تختلط المشاهد في سرديات القاص فيجد القارئ نفسه محاصراً بين شِباك تَنسِجُ كولاجاً مشهدياً يقف على حافة المفارقه المونتاجيه: ” . . .تضحك هند برقه وبراءه وهي تقفز فوق السرير, وتخبره بأن قلبها له وحده الآن . . وأبن عمه لا يقدر أن يفرك عينيه من أثر الدم والغبار الذي علق ويَبُسَ . . . الخ) ص 83. هل بوسعنا أن نتصور مدى رفع الخيط الفاصل بين الحياة والموت, الحب والكراهيه, الجمال والقبح؟ ولذا تشخص الكثير من الأسئلة الملحه بوضوح أمام ناظري عصام فتنهال على رأسه بلا هواده, (كيف يخلق الله الجمال والقبح؟ وأين وجه الله بينهما؟ . . . ) ص82.

إن القارئ مدعو عبر هذه المجموعه إلى فقدان براءته الأدبيه والفزع من حجم البون الشاسع بين سطح هذا العالم الهش والقاع الغارق في ظلمه مباركه ونبيله لأنها تغيب الوجوه القبيحه على حد تعبير القاص وهو يصدر مجموعته, (طوبى للظلمه لأنها لا تنير الوجوه القبيحه). أن المجموعه بنصوصها الثمانيه تشكل رحلة وعي أدبي حاد ومرهف يحاول تحسس وجود الأشياء, فزعها, قلقها, وتوهجها, كل ذلك يمر عبر عين القاص اليقظه أبداً, المسكونه بالدهشه وهي تغوص نحو القاع البارد, المظلم, الموحش لحقيقة الصياغات المفاهيميه للأشياء دون أن تترك وراءها أثراً يُذكر لصخب الغوص, فهي تندس وتتسلل بتؤدة ودهاء الفنان لا بسذاجة الحرفي.

أحدث المقالات

أحدث المقالات