الشعر الحقيقي ، هو الذي يجرنا بطريقة سلسة (( غير متعبة )) الى عالمه ، ويمنحنا حالة الذي يزور ويستكشف عوالم جديدة ، وهو الذي يأخذ بتلابيبنا الى عوالمه .
والقصيدة ، هي ذلك العالم الصغير الذي نشعر فيه بلذة الأكتشاف التي تمر على الخاطر والوجدان ، هكذا ، كنسمة طيبة أو كورقة ياسمين تسقط في احضاننا .
ولو اخذنا بهذه التوصيفات السهلة والبسيطة سيكون بأمكاننا ان نتصور قيمة القصيدة .
ان السرد (( القصصي )) في عالمه الواقعي والمتخيل المكتوب هو بحد ذاته رحلة اكتشاف والقاء ضوء ، ويقودنا الى عوالم اخرى ، هذه هي طبيعته التي تجمع عنصر (( التوصيفية والحكائية )) .
اما القصيدة فهي (( المنحوته )) الصغيرة التي تقودنا الى عوالمها وتهويماتها وتلقي بنا في بركتها المتدفقة لنشعر بلذة الاكتشاف لعالمها .
ومالم تتوفر هذه اللذة والشعور بالأكتشاف (( المليء بنا وبأنسانيتنا )) فأن القصيدة تفقد احساسها وميزتها وتصبح ميته .
وهذا الهاجس او التدفق المتولد لدى الشاعر هو الذي دفع بأغلب الشعراء للبحث عن مساحة أوسع ومتسع اكبر للتنفس ، فكانت قصيدة الشعر الحر هي الملجأ والفضاء المنبسط والأوسع امامهم . وقادتهم الخطى الى ابعد من ذلك ، الى الشعر المنثور او (( قصيدة النثر )) التي جاءت عبارة عن رصف انفعالي سريع (( بأي )) شكل لعوالم الشاعر .
وقد قالوا ان الشعر الحديث بأمكانه ان يستوعب مالاتستوعبه الا نادرا القصيدة العمودية . لكن اذا رجعنا الى (( تراثنا )) في الشعر العربي الممتد منذ عصر الجاهلية وعبر العصور اللاحقة ، وعلى امتداد الممالك والأصقاع العربية ومن ثم على امتداد دولة العرب لوجدناه مليء (( بدرر ونفائس )) من الشعر العمودي – المعلقات – ومابعدها ، التي قدمت صورا شعرية بالغة الروعة ، وبالغة التفصيل والوصف ، ودقيقة مفصلة في متخيلها الشعري . ولأن هذا يحتاج الى فصاحة وبلاغة (( نفتقدها )) فأن الشعراء يلجأون الى السهل المنبسط اكثر، والأكثر مرونة (( الشعر الحر )) .
ولعل التذوق لدينا كمتلقين قد اختلف ايضا مع اختلاف العصور والاوقات ، واصبحت ذائقتنا وسمعنا في عصر الانفتاح والتحول السريع غير قادرة على هضم كلمات (( عدي بن حجر او طرفة بن العبد اوزهير بن ابي سلمى او عنترة اوحسان بن ثابت اوجرير او الفرزدق او ابونؤاس او الجواهري ، وعشرات غيرهم )) ، وانها بالكاد تهضم (( عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعشرات جاؤوا بعدهم )) ، ولكنها تستأنس مع بعض قصائد (( احمد مطر )) ، وتصدح مع (( نزار قباني واحمد الجخ ونثريات احلام مستغانمي )) ، هذه مجرد أمثلة اوردها ليست للحصر .
لقد عرف ارسطو الشعر على انه : ضرب من ضروب المحاكاة ، فذوي النفوس النبيلة حاكوا الأفعال النبيلة ، وذوي النفوس الرذيلة حاكوا الرذائل . وجاء ابن رشد ونقل آراء ارسطو الى العربية وتبناها محاولا تطبيق الآراء الارسطوطاليسية على الشعر . غير اننا نفهم من تعريفهم هذا ان القصيدة هي ردة فعل لفعل خارجي (( الحماسة – المديح – الهجاء وغيرها )) ، بينما الشعر الحديث وفر مساحات شعرية يمتزج فيها الفعل برد الفعل ، وينطلق المتخيل الشعري الى اوسع من ذلك . وقد تولدت هذه الحاجة بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث اصبح المثقفون ، والشعراء منهم بحاجة الى مجال أوسع ليسجلوا فيه وضعهم كجزء من مجتمع انساني في قبضة الحرب التي صارت تطحن قيمه وموروثاته . فكسروا حواجز التقليدية وانطلقوا الى مجال الشعر الأوسع والممكن (( بالقدر اللغوي والبلاغي وبقدر الفصاحة المتوفرة لديهم )) .
ويبقى الأساس هو: ان لكل شاعر قابليته وقدرته ووعيه الذي ينعكس جليا على انتاجه .
وتبقى القصيدة عالم جغرافي ، والشعر الحقيقي هو الذي يجرنا بطريقة غير (( متعبة )) الى عالمه ، ويمنحنا حالة الذي يزور معالم جديدة (( من انسانيتنا )) التي تحتويها تلك السطور النابضة . ولذة القصيدة هي لذة الاكتشاف التي يعايشها القاريء وهي مقدار نجاحها .
E-MAIL: [email protected]