يدركُ الشعرُ ذاتهْ من خلال معناه وكلماته أنه ما نكتبهُ ونقولهُ ونستشعرهُ في الخفاء والعلن وفي العتمة والنور وفي السعادة والالم . ومتى تجد القصيدة كاتبها تضيء العالم نبؤة جديدة في مسرات رؤى العقل ولكن ليس الشاعر صاحب نبؤة إذا لم يكن يدرك في السر معنى صياغته لما يكتبه ويقوله ويستشعره ، وعندما يكون الشعر بدون هكذا نمط من الشعر يصبح كما دمية في ملعب الحياة يستأنس فيه الأخرون ولايستأنس هو حتى عندما يكون في كامل أناقته وعلو منصبه ، فالشعر الحقيقي هو الشاعر الحقيقي ، وما نبحث عنه في مناجم الحلم نجده في ذلك الحس المركون بورقة دونها رمش وهبته الالهة القدرة ليتجاوز ما موجود الى وجود آخر يتسامى ويطير ويسحر.
هذا هو الشعر في جانبه الحياتي والميتافيزيقي . وربما الامكنة بمستويات وجودها الجغرافي والروحي تمثل بعض خصوصية صنعته ، وكما يقول باشلار :من دون مكان لن تجد الجملة مكانا صادقا وحقيقيا للتعبير عن مكنوناتها . أي أن الفراغ لايصلح أن يكون صانعاً أو محفزا أو هاجساً لصنع قصيدة ، مفترضين أن الفضاء ليس الفراغ أنكا هو من من امكنة المطلق ، أما الفراغ فهو فراغ العقل والذاكرة والموهبة.
نضع المدينة ( الناصرية ــ كافافيس ) مثالا لرؤية ما نشعره في معناه وحقيقته ، وسنكتشف أن المدينة الأكثر سعة بين الاوعية التي يصب فيها الشعر أمطاره ليشرب القُراء ما يشعرونه مانعا للظمأ ومُشبعاً لحاجة ارواحهم ضد هذا اليباب والجفاف الذي يكتسحُ عالمنا مع العولمة والطروحات الجديدة من فقه القاعدة والسيافيين الى فوضى قسوة الطبقة الحاكمة وربيعها العربي. وفي هكذا الضجيج هناك من هم ندرة وقلة ينعزلون في صوامعَ ارواحهم ويختبؤا في ليل المدينة والغرف النصف مضاءة أو على سطوح بيوتهم ليكتبوا لنا شيئا أسمهُ ( الشعر ).
لايفسر الشعر خباياه إلا من خلال الأخيلة ، والمدينة بعض أخيلة القصيدة حيث يتوافر لها ما تمتلكه الهواجس المضيئة لتجعل ليلها أو نهارها حديقة الفصول كلها لوردة الحرف وهو يغادر الروح والقلم بأنسيابٍ موسيقي حميم ، وربما رؤية قسطنطين كافافيس للمدينة تمثل انموذجا سحريا لأحساس الروح بتفكير المدينة وملاصقتها لأفعالنا الحسية والعملية والقدرية.
بين مدينة كافافي والناصرية مسافة من عمر الشاعر ، دفع ايقوني وميثولوجي وايروتيكي لحركة الجسد وتفكيره منذ قطع الحبل السري ومرورا بطفولة الخبز والجوع وانتهاءً بالقصف والقصف المقابل وانتهاء بموسم هجرة نوارس النهر.
أشكالية من تحديد العلاقة ، كافافيس بعزلة الرعشة والناصرية بقيظ تموز وخرائطها السومرية الممتدة من شارع الهوا وحتى جميع مقاطعات امريكا ، لاشيء سوى انها من النخل تصنع اوقاتها فيما يصنع الشاعر اليوناني اوقاته من ثمالة القياصرة والجنود وسناتورات مجالس الشيوخ .
بين الشاعر والمدينة ( الناصرية ) حميمة حس وشهوة افخاذ وحرارة قبلات حمراء تعبر لحظة تأليف القصيدة الى حرب من مودة غرام لاينتهِ إلا عند قناعة اللحظة الاكثر وضوحا في جعل المدن سر كشوفاتنا ونحن نريد ان نؤسس لحياتنا مجدا اسمه ( ديوان شعر ).
وعلى ضفتي الكأس الذي يشرب منه كافافيس ، تشرب الناصرية من ضفتي نهر أسمه ( الفرات ) ليخرج من رحم تأمل الشاعر أحساسه الخاص وتفتح له الشوارع صدور عابريها بين الرجل الكادح ونهد المرأة العاشقة ، وفي الالتحام المصيري بين تلك المغريات يخرج الى الدنيا ذلك الوليد الصغير الذي يدعى ( القصيدة ).