بعد أن خانه ظنه.. ونفذ صبره.. فقد صوابه.. ضاعت آماله.. قرر الرجل أن يشد الرحال.. نحو وجهة عنوانها النضال.. منتفضا في وجهي كالبركان.. قال “سوف أقتلك.. وأكتب على نعشك قصيدتي”.. غطست في بحر عينيه مستفسرة.. أبحث عن صدق الأفعال والأقوال.. فلم أجد سوى معانات رجل مكسور.. مبعثر.. خانته الأيام.. همست في أذنيه قائلة.. “ذبحتني منذ أعوام”.. انتفض في وجهي مجددا.. مسترسلا في الكلام.. “سوف أظل الطيف الذي يطاردك في الأحلام.. والخطر الذي يتربص بك في كل مكان.. أنا الحقيقة التي ستبقى مسجلة في الأذهان.. أنا “جبل”.. لا ينهار.. أنت “ثرلي” ملهمتي.. لا مفر من الأقدار.. قررت محكمتي.. انتهى الكلام.. إذا كنت تخشين التقدم نحو الأمام.. لا تشكي وجعك للأيام.. هروبك المعلن.. وعنادك المستفز.. جعلك تخسرين الرهان”..
قلت له مبتسمة.. لا تقل أنك الحب الذي كان.. فشتان بين من ادعى الحب ومن صان.. الحب يا ولدي إصرار ما بعده إصرار.. نضال وصراخ غايته البقاء.. كفاح وصراع خوفا من الفناء.. العشق يا ولدي شعاره الخلود.. يبقى موشوما في ذاكرة النسيان.. مقاومة تقدر بمائة ألف عام.. الحب لا يستثني أميرا ولا فقيرا.. راهبا ولا راغبا.. ناسكا ولا داعرا.. لا يغزوه غرور ولا يعرفه هروب.. يجعل الأنا في الهوى تذوب.. الحب عطاء بلا حدود.. لا يدع مجالا للشكوك.. مبني على عهود.. الحب كما الجنون.. كما الفنون.. لا تحكمه عقول.. ولا تصده حروب.. لا تخيفه بحور.. ولا تقهره بخور.. الحب سلطان لا يعرفه نفور.. والعشق وصال ليس فيه صدود.. لا تشهد الليل على عشقك.. ولا تدعي أنك بحبي كنت متيما..
رد علي قائلا.. “الحب قصيدة.. سنفونية يعزفها المجانين.. تبكيها الملايين.. الشعر ثورة تقودها الموازين.. وترقص لها المهابيل.. كلاهما إبحار.. قد تعود منهما أو لا تعود.. جمال الشعر في مدح العيون يكمن.. في عشق ما لم يدق له بالأمس قلبه.. الحب كما الفنون.. كما الجنون.. يجعلك لحضن أمك تعود.. في آيات الجنون تذوب.. يجعلك في بحر الشعر تغطس.. عن النوم تعجز.. في الوهم والوجع تسكن.. هذا كل ما أعلم”..
قلت له موضحة.. “كلام جميل فيه من روح الأمراء.. إلا أنه.. يفتقد لعمق الشعراء.. الحب لا يستقيم معك أمره.. والشعر لا يستوفي بك ركنه.. الحب هو أن تدرك الأشياء من خلالي.. وتترك تلك النزوات من أجلي.. وتفقد ابتسامتك معناها بدوني.. الحب هو حينما تكون الدنيا ملك يديك.. وحور العين تحوم حولك.. والحظ يناديك باسمك.. والحوريات تتسارع لنيل رضاك.. أكون أنا الأقرب من قلبك.. والأحلى في عينك.. الحب هو أن أجعلك تشعر بفقداني.. كلما ابتعدت عنك.. وتخشى غيابي كلما اقتربت منك.. وتحبني بقدر احتياجي لك.. مهما قلته ومهما فعلته.. تبقى زلاتي بردا وسلاما عليك.. الحب يا ولدي.. هو أن ترى في وجهي عظمة الخالق وجمال الكون.. وقبل أن تغفو على الوسادة.. يأخذك الشوق والحنين بحثا عني.. حينما تسمع قهقهاتي وصراخي.. يأخذك المغنى دون أن تدري.. تسافر بك نبرات صوتي.. نحو أسمى معاني الحياة.. الحب يجعل منك ملاكا.. في عيونك ملاذا.. من همساتك بلسما.. خارج أسوار “الزمكان”.. تقودك الخواطر نحوي.. الحب هو ألا تأخذك تلك الأنوار والألوان.. وألا تبهرك تلك الأعلام وتتقمص تلك الأدوار.. ألا تعني لك تلك الأوطان.. وألا تبالي بتلك الأسماء والألقاب.. تلك الأحلام والأوهام.. تلك الأعوام والأعمار.. تلك الأعياد بدوني.. الحب يا ولدي.. هو أن تعشقني حد النكران.. وتحبني حد الهذيان.. في الحب لا توجد منزلة وسطى.. بين الكفر والإيمان.. بين الحب و”اللا حب”.. بين جلالة الحب وجلالة الوطن.. وجهان لعملة واحدة.. فهل أنت مستعد للإبحار؟.. أدار وجهه عني.. حتى لا أرى الغضب يسيطر عليه.. كي لا أسمع ما كان يقوله عني.. “آه لو كنت أحمل يا نجاة مسدسي.. لأشعرته في وجهك حتى تستسلمي.. لو كنت سيفا لقطعت به رأسك.. لوضعت حدا لجنونك.. لأخفيت بذلك معالم هزيمتي..” بل كان يريد أن يقول.. “تمنيت أن أكون يا نجاة في سمائك نجما.. أقول في عينيك شعرا.. أنافس امرؤ القيس ونزار فيك جنونا وهياما”.. قلت له.. “كيف لك أن تكون في سمائي نجما وأنت من اخترت الأرض لك موطنا.. كيف لك أن تقول في عيني شعرا.. وأنت لست له مؤهلا.. كيف للشعر أن يعود.. من لم يلامس قلبه وفاء؟.. كيف لك أن تكون لي عاشقا.. والخيانة؟.. ما عساك بها أنت فاعل؟.. لا تطارد طائرا اختار لنفسه أن يحلق عاليا.. معلنا للحرية له انتسابا.. “بلا عنوان” أنت اقترحته ليكون للقصيدة عنوانا.. أنا لا أطارد نجما من السماء هاربا.. أصر أن تكون الأرض له موطنا.. من ضياء القمر أضحى مشتكيا.. أنا لا أثق بمن كانت جميع الأوطان تناسبه.. من كانت كل الجنسيات على المقاس تليق به.. كل النساء يلاحقها وتلاحقه.. هكذا أنا، لا أهوى الحرمان.. ولا أحترم أنصاف الرجال.. هكذا نطقت جارتي أحلام.. في أعذب رواية اسمها عيد النسيان.. أقسم بحلاوة حبات الرمان.. والبرتقال الذي لم يعد رمزا للبلاد.. أن حبك ادعاء.. على وزن افتراء.. أقول لمن يحاول في الشباك إيقاعي.. حاول أن تستوعب ما تقوله أشعاري.. هذه دمائي.. هذه دموعي.. هذا مصيري.. البركان يغلي.. الفيضان دمعي.. الطوفان دعائي”
رغم تحذيري له.. أصر أن يركب السفينة.. ويعود إلى المدينة.. بعد الإعلان عن توبته قرر أن يأخذ وجهة غريبة.. قرر أن يكتب القصيدة.. أن ينشر أبياتها في عرض الجريدة.. بهذا يكون قد ارتكب أبشع جريمة.. تحت إيقاع أصابعه المرتعشة.. انتفضت سيجارته النحيفة.. طلب فنجان قهوته المرة المعتادة.. “سكر زيادة”.. أحضر ورقا.. أخرج من جيبه قلما.. ليضع حدودا للقصيدة.. أحضر عدة ورصاصا.. تحسبا لأية هزيمة.. وقبل أن يطلق العنان.. ويستقبل رياح القريحة.. قامت الوصيفة بتدليك أصابعه الملطخة.. وبرد أظافره المستديرة.. وتلميع وجنتيه المتعبة.. غير مبال بالنصيحة.. أخذ نفسا عميقا.. راح يكتب القصيدة.. كيف لمن لم تسل قطرة دم على رماله.. أن يضع حدودا للخريطة.. كيف لمن ليس له وطنا.. أن يكتب القصيدة.. كيف لمن لا يملك قلبا.. أن أكون له عشيقة..