19 ديسمبر، 2024 1:59 ص

القصة بين المفارقة والحدث

القصة بين المفارقة والحدث

القصة بين المفارقة والحدث .. قراءة في المجموعة القصصية ( كائنات في زجاجة ) للقاص عدنان عباس سلطان .
لعلكم أحياء لعلكم أموات لعلكم مثلي بلا عنوان ما قيمة الإنسان بلا وطن بلا علم و دونما عنوان (محمود درويش)
ان البحث في اي عمل قصصي هو في كثير من أحواله بحث في فن مادته : الشخوص والأحداث ووسائله التقنية الأخرى على اختلافها وتعددها لكن يظل عامل التفرد والإبداع في الأسلوب والصياغات هو ما يميز خصوصية قاص عن أخر .
  لقد كثرت في الاونة الأخيرة الدراسات الفنية  والمواضيع النقدية عن القصة مما ساهم في تطور هذا الفن شكلا ومضمونا و إبداعا وهو دليل واضح على أهمية القصة ودورها الفاعل في رفد الوعي الإنساني من خلال رصدها المستمر لكل ما هو يومي مؤثر في واقعنا وحياتنا ، لذلك تعتبر القصة النوع الأدبي المميز  الذي خرجت من رحمه العديد من الأشكال الأدبية التي تهتم  بالسرد الحكائي .
  وعليه تنفرد القصة  بموقع الريادة لما تشكله من حضور طاغ على المشهد الأدبي ، لقد استطاعت القصة عبر تحولاتها الزمنية ان تكون انعكاسا للواقع الخارجي وخيال الكاتب عبر لغة وأسلوب فني مكثف يعبر من خلاله الكاتب عن رؤيته للمجتمع وهذا ما جعلها تحظى دائما بقبول جماهيري عال و حضور دائم .
  تعد قصص عدنان عباس سلطان ( كائنات في زجاجة ) الصادرة عن مشروع بغداد عاصمة الثقافة-2013 ، واحدة من القصص التي تعتمد في بنائها على ثيمات مركزية ترتبط بحاجة الإنسان العراقي للسلام والتعاطف والبحث الدائم عن الهوية الوطنية للوصول الى حياة كريمه خالية من الإذلال و التهميش والإقصاء الذي طغى على واقعه اليومي بسبب الاحباطات  السياسية والاجتماعية المتكرر التي عمقت الفجوة الاجتماعية بين المواطنة الحقيقية والانتماءات الحزبية والمذهبية  مما دفع الكاتب الى اختيار عنوان مجموعته القصصية كائنات في زجاجة وهو تعبير واضح عن حجم الفشل الأخلاقي و ألقيمي الذي يرزح تحته إنساننا حتى بتنا كائنات مخنوقة من الداخل والخارج كائنات مهووسة بالقمع والإقصاء(كان وهو يفكر بهذه الطريقة قد مد يده الى جيبه واخرج أوراقا وهوية مميزه بصورته المتعبة) ، تتكون المجموعة من ستة عشر قصة اعتمدنا في رصدنا لها على نماذج من قصة كائنات في زجاجة الذي عنون بها مجموعته التي تقوم في بنائها على عقدة مركزية تمثل ذروة الحدث القصصي هي (المفارقة و الحدث) وهذا ما انعكس بشكل واضح  على جميع أبطال  قصصه  التي ترتبط فيما بينها برابط دلالي رمزي يظهرمن خلال فشل وانكسار و تشظي  و إقصاء للذات الإنسانية بسبب قسوة الواقع المعاش اي هي شخوص مشحونة بهاجس الفشل واللا جدوى من جراء تداعيات نفسية وانهيار اجتماعي ، لذلك ظلت هذه الشخوص مسكونة  بالتجارب الحلمية والخيالات الطافحة بالأمل(ازاح ظل البوابة توهج النهار عن جسده وهو يدخل تحت قوسها الهائل ، يكاد قميصه ان يتقد من الحرارة فتح الازرار ، وأجنح ذراعيه للنسمة المتباطئة مظهرا المناطق المنقوعة بالعرق تحت أبطيه كان كمن يحاول ان يطير ) ، اعتمد الكاتب التنويع في أساليب السرد مبتعدا بذلك  عن أساليب السرد النمطي للأحداث من خلال توظيف هذه الأساليب في ما يسميه جنيت المفارقة السردية وذلك بتغير الاتجاه الخطي للسرد اي سرد يخالف توقعات القارئ.
  أعتمد الكاتب في قصصه على الاستعارات أللفظية الشعبية في أسلوب الحكي  من خلال التناقض والتنافر في الوصف لتحفيز النص ( كان رجلا مثقفا يعمل بنقد الكفاءات الامنية ،والقصص الملفقة ) اعتمد الكاتب على أحداث تكشف غرابة الحياة وإيهام الواقع او لا معقوليته ، (السيد رطبان ابن علوان قد اعاد حلقة الذهب الى الموظفة سهى ) توزع صوت الروي بين راو عليم  مشارك وأبطال  القصص مما أعطى حرية  السرد الحكي الذي يعكس بدوره وجهات النظر والرؤى المختلفة في رؤيتها للواقع  وهو ما اعطى حرية التعبير لشخوصه  استخدم الكاتب  أسلوب المنولوج الداخلي  للبطل في جميع المجموعة وذلك لكشف حجم الصراع النفسي الذي تعيشه الشخصيات(فكرت حينذاك ببطاقة التجنيد المزورة ) استخدم الكاتب في الكثير من القصص أساليب  وعناصر  بلاغية لكسر التتابع الزمني للحدث العاج  بالدلالات و المعاني المضمرة (لا تعجب كثيرا فكثرة العجب تجعل من المرء أبلها) استخدم الكاتب خطاب نقدي  موجه   لدفع المتلقي للتفاعل مع النص ، اعتمد مقاربات نقدية فاعلة  اجتماعية ونفسية باسلوب المحاكات الساخرة  ( ما زالت الوحدات العسكرية التي خدمت بها هاربا ،تحتفظ بفصول مهمة من تاريخ حياتي هناك) .
  ولو عدنا الى موضوع ورقتنا النقدية (المفارقة والحدث)  نجد ان هذه المفارقة تحدث اثناء تصارع الأحداث وتصادمها عبر الحوار فيما بين شخوص متقابلة الرغبات لكن متعارضة المفهوم اي يحتال بعضها على بعض ويكيد بعضها بعضا  قد تقع أحداها في الفخ فتقطع هذه المكيدة  فتاتي نهاية القصة على مفارقة بين ما كانت تتوقعه الشخصية وما حدث في الواقع اي ان  المفارقة التي أجاد أدارتها الكاتب تقوم على اساس مفارقة جزئية في حدث صغير داخل كل قصة لكن هذا الحدث يتحول مع باقي احداث المجموعة الى مفارقة  كلية لذلك هي سمة أساسية في بناء النص ففي مشهد مابين سرحان(ابو ذياب ) مع الموظفة تتضح هذه المفارقة بشكل جلي (اليوم راجعت الموظفة (بطلة خيالاتي الدامية )ومعي رزمة بطاقات استقبلتني بكثير من الاهتمام قالت على استحياء ان اتفضل الى غرفتها الخاصه!!يا سلام انها ضربة الحظ … امسكت هي بالتلفون وهمست بكلام خافت لم افهمه كان همسا مجفرا) لينتهي المشهد بتذكر سرحان مشهد اعتقاله على يد رجال الشرطة والعسكر كهارب من الجيش وهي تهمة قد تصل للاعدام والتعذيب وهذا الحدث حوله الكاتب الى مفارقة مابين الرغبة في الحب والحياة السوية وواقع مسكون بالقمع والتهميش ، لذلك دفع الكاتب قصصه نحو  نهايات غنية  بالمفارقة في الاحداث . استطاع عدنان عباس عبر مجموعته القصصية من الولوج الى عمق الاسئلة  : نحن لماذا نقتل، نجوع ، ونلاحق ، ونخنق ، ونتقاتل ، ونحن نسكن وطن غني في كل شيء  وهو سؤال محوري في جميع قصص المجموعة ، ليضعنا الكاتب امام مفارقة الجواب   فكلما توغلنا  اكثر في سؤال النحن زادت  هوة السؤال فتتأجل الإجابة ليظل السؤال معلقا على امل الإجابة عليه في إحداث ومفارقات اخرى .

أحدث المقالات

أحدث المقالات