ربما سيحمل رأيي بقصائد الشاعر علي الشيال الكثير من الخصوصية العاطفية كونه أحد الأصدقاء الذين اتعاطف كثيرا مع تجربتهم الشعرية والحياتية ، وعندما اقرأ له فكأنني أعيد ترتيل تاريخي الخاص بلغة إنسان يمتلك حسايسة طافحة تجاه الحياة بكل احداثها ، وتعلقا بتاريخ مدينة تعددت وجوهها ، ففاضت روحها إلى اقلام الشعراء لتتجلى في هواجسهم ، وتدون تاريخها بأقلامهم ، لنرى وجهها محمولا على فيض المشاعر المتدفقة من حرارة الكلمة وصدقها المنحاز للقيم التي دونت بأقلام من قصب على الواح طينها ذات يوم ، وتسربت إلى مناخها لتستقر أخيرا في صدور الأمهات ينقلنها إلى اولادهن جيلا بعد جيل ، لتتلون لغة القصيدة بأسماء المدن الغابرة وأبطالها كما بأسمائها الحديثة ووجع أحداثها .
والشاعر علي الشيال هو واحد من الذين تحمل لغتهم الينا تاريخ المدينة مشبوبة بعاطفة الانتماء الحقيقي إلى كل القيم التي تخلق من الإنسان كائنا يلوذ في ظل الغناء ، ويخاتل الويلات بالمواويل ، ممتهنا حرفة التدوين الشاعري للواقع ، حيث يكون جواز المفردة إلى قلوبنا ، تلك الشحنة العالية من صدق الإحساس ، وبراءة الرؤية ، وعمقها .
تتألف المجموعة الشعرية الأولى للشاعر علي الشيال ” اوروك . . يا سليل التعب ” من خمس عشرة قصيدة نثرية ، ونص بعنوان ” ترنيمة سومرية ” ترك للمخابيل تصنيفه ” في هامش يحمل لطف المشاكسة ” توليفة ادبية بين لغة الخبال والعشق ، اترك للمخابيل تصنيفها ” وها أنا اصنفه كنص شاعري تكثفت فيه اللغة لتختزل تاريخ وأحلام الشاعر .
تفتتح المجموعة بالقصيدة التي تحمل عنوانها ” اوروك . . يا سليل التعب ” ، فنقرأ في وصية الشاعر لولده انشودة سومرية غمست بماء الهور وصوت المطرب الراحل داخل حسن ، كرموز ترسم أمامنا صورة واضحة لحضور ما هو تاريخي غابر في حياتنا بشكل يدل على استمرارية العلاقة وينفي وجود القطيعة بين سكان اور .
” أيها المخلوق من غناء ورفض
تعلمت اللا
والمواويل
والياويل . . ياويل
منذ عمّد كلكامش
داخل حسن
بماء الجبايش
ولذلك أصبح
يجيد طور الونين
* * *
فاسمع جدتك شبعاد
وهي تعزف لك بقيثارتها
المصنوعة من أحلام العاشقين
(( للناصرية أبو جناغ أريد وياك للناصرية
بجفوف اديه تعطش وأشربك ماي بجفوف ادية ))
تخترق هذه الرؤية جميع قصائد المجموعة ، فنجدها أو نجد اصداءها في كل قصيدة لاحقة ، تعمل على توطيد ذلك الارتباط بالشكل الذي يجعل من شخصية الشاعر بكل ابعادها انعكاسا لتاريخ الأرض التي ولد عليها .
ففي القصيدة الثانية من المجموعة ” ابنة الله ” نلاحظ تحقق تلك الرؤية ، وتبني الاعتقاد السومري القديم في أن السومريين ” ذوي الرؤوس السود ” هم أبناء الاله انليل .
” هكذا علمني الحلاج
أن الناصرية ابنة الله المدللة
لذلك دحرجتني الشوارع
نحو السواتر
فارتطمت بالخوذ المتناثرة ” .
أن ذلك الدور المتبادل بين المدينة والشاعر ، يحيلنا إلى معنى التوحد بين ” الشخصيتين ” .
” لكني
وريث ابن الله . . الجنوب
الجنوب الذي إذا لم تعرفه
فانك جاهل بعلم الطيبة
وبحكايات الليالي البربرية ” (( من قصيدة رحلة في ذاكرة الأوان )) .
لنرى في تزايد ألم الشاعر صورة لانحطاط حال المدينة ، وفقدانها ذلك الوهج الذي لم يبق منه غير تلك اللقى المحطمة كما تحطم ابناؤها في قسوة الحروب والحصارات .
” ماذا بعد . . . . أيها الراقد
على أكمة الجراح
والتيه الأبدي
ماذا بعد . . . . وأنت طوي كل الوجوه
التي قبلتها بوداع اخضر
علك تحيا من جديد بين خيوط الشمس
* * *
يا ابن ايوب الشرعي
وأبوك الألم بالتبني
ولدتك الناصرية مترعا بالضياع
ومتوجا بالوجع السومري
إرثك الوحيد بندقية
ولا لا لا ” (( من قصيدة تداعيات لوجع قادم )) .
وحتى هذا الارث يفقده الشاعر في معنى يحيل إلى فداحة الخسارة وقسوتها في قصيدة ” احتفائية لتتويج الانكسار ” التي تتهكم فيها اللغة من نفسها عندما تخبر أن كل أدوات الرفض موجودة ، لكنها عاطلة عن العمل ، فاقدة لتأثيرها بشكل موجع ، وهذا معنى يتكرر كثيرا في القصائد الجنوبية كدليل على وحدة الشعور .
” تعود متوجا بالانكسار
للمدينة التي هجرها الطيبون
تعود للانحناء مقابل الأيدي الرحيمة
لك أجنحة للتكسر
لك بنادق للهزيمة
لك لسان للصمت
لك قصائد لسلة المهملات
تحت مكتب رئيس التحرير
…………………………
……………………………..
……………………………….
لك مدينة للغرباء
آه أيتها المدينة
يا جرح الصواريخ في ذاكرتي ” .
تطوف بنا قصائد هذه المجموعة من حلم إلى وجع ، ومن افتخار إلى انكسار ، بلغة اتقن الشاعر تطويع مفرداتها لتحمل ذلك الدفق من المشاعر الحميمة ، فتهز وجداننا ، وتوقظ فينا احاسيسا ملهبة تشدنا إلى جو القصيدة ، وتحلق بنفوسنا في عوالم الشاعر ، احاسيسه ، وروعة تصويره لتجاربه ، فنرى تلك الصور البلاغية الجميلة والدقيقة في نقل مكنونات نفسه من خلال القدرات التعبيرية التي يكتنزها اللفظ الشعري .
” تعالي
كي ننام على ارائك من وهم
تحت ضوء جسد مخذول
***
حين تشدق الدواب تحت ابطي
لا تسقط . . . يا صديقي الوحيد
كل مما رزقك الجنوب
***
أيها الدواب
يا من اقرب إليّ من جلدي
الذي نسيته معلقا على غصن يابس
في الزنازين الباردة
هناك
قرب نار الله المتقدة ” (( من قصيدة ليلة من نوع خاص )) .
يختتم الشاعر مجموعته بهذه القصيدة في اختيار ذكي يتوج به مسلة الألم السومري الذي شهد ابشع أنواع التعذيب في زنزانات دوائر الأمن الصدامية ، حيث تتجلى هنا أعلى صيحات سومر بكل حضارتها الباذخة عندما يستولي عليها الأغراب ممن ترعرعوا في احضان البيئة الوحشية بكل موروثاتها القائمة على القسوة وسفك الدم ، وربما يقودنا الحديث عن الموضوع إلى الدخول في مقارنة حضارية تاريخية تبتعد بنا عن اغراض القراءة لهذه المجموعة .