19 ديسمبر، 2024 1:02 ص

القرار الكوردي والضوابط المثالية

القرار الكوردي والضوابط المثالية

لايمكن إعتماد الضوابط المثالية في العلاقات بين الأحزاب الكوردستانية، خاصة في حالات بحث الأخطاء السابقة والأزمات القائمة، وفي إتخاذ القرارات التي تخص الشؤون الداخلية والعلاقات البينية، ولايمكن أن تكون(الضوابط المثالية) غطاءً لإخفاء مشروع سياسي معين، لأنها: أولاً، غير مبرّرة وتعمل على تفريغ الصورة الحقيقية من محتوياتها. ثانياً، تشكل عقبة أمام النظر إلى المصلحة العامة والانضباط عند توافر القدرة ونية التراجع عن القرار وإبداء المرونة. ثالثاً، تشل القدرة على الاستدارة في لحظات التأزم، وحينما تكون الظروف حرجة أو مساعدة أو راجحة. وأخيراً، تعد تجاهلاً لطبيعة التحديات التي جعلت الإنسان الكوردستاني أصلب عوداً، ومعتاداً على الصعاب والمصاعب والحصار والتجويع وتحمّلها، وعازماً على مواصلة النضال والصمود وعدم الركوع والاستسلام مهما كانت التضحيات.

دراسة مسار الضوابط المثالية في كوردستان تقودنا إلى التوقف عند مواقف جهات أدارت ظهرها لشعب وحكومة الاقليم، وأخذت تبحث عن ورقة رابحة تحقق لها ما تطمح إليه، في بقائها في أروقة السياسة والسيطرة عليها من جهة، وممارسة دور المعارضة ونشر الفوضى وإعادة الإقليم الى المربع الأول من جهة أخرى، فخططت وإفتعلت الأزمات للإطاحة بحكومة الإقليم بالإشتراك مع المعادين لعملية الاستفتاء التي جرت في أيلول 2017، والإنسحاب من حكومة الإقليم، وإحتقار الشعور الوطني، عبر تقديم التنازلات لجهات متربصة بالكورد، وجدت ضالتها فيهم. لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فلم يستلموا من بغداد وعواصم دول الجوار ومراكز القرار في العالم وحتى الجهات الأخرى، غير الإقرار بتمسكها بالدستور العراقي وقناعتها بأن القرار الكوردي هو في الحزب الديمقراطي الكوردستاني، ورئيسه مسعود بارزاني، وحكومة الإقليم ورئيسها نيجيرفان بارزاني، كما أكدت حقيقة الثراء السياسي لجمهور البارزاني وحزبه، وهذا ما كان بمثابة الضربة القاضية لتوجهات تلك الجهات وعجزها أمام إرادة وقوة وتحدي الكوردستانيين وإعتزازهم بأنفسهم.

بعدها جمعوا مواقف متناقضة وسعوا الى تغيير معادلات الخريطة السياسية الكوردستانية بالإعتماد على تنفيذ أجندات بديلة والعودة للواجهة، والتنمّر على الآخرين من خلال بوابة الإنتخابات البرلمانية العراقية، ورفع شعارات تتجاوز الخطوط الحمراء للتأثير على خيارت وقناعات الكوردستانيين، فشخصوا مبدأ تقرير المصير والاستفتاء على أنه خطأ كبير، وإجراء غير مناسب من حيث الزمان والمكان، رغم أنهم شاركوا فيه. ولكن الإنتخابات جعلت مهماتهم مستحيلة في أروقة القرار، وخذلتهم وكبحت مطامعهم وإكتسحت آمالهم وتوقعاتهم، لأن نتائجها أشارت الى منح ثقة المؤيدين لحق تقرير المصير الى الرئيس المتواضع الذي تعرض للهجوم والتسقيط والضغوطات والإرهاب الفكري، وله القدرة والخبرة والمكانة في النظام السياسي، ومصداقية شعبية وسياسية. وإنجازات مميزة تتيح له عقلانية القرار والتأني في النظر إلى الوقائع وتفادي الأزمات وفهم طبيعة التوازنات الداخلية المعقدة، وتدل على تضحياته وتواضعه وإصراره على إتخاذ القرارات الاستراتيجية المبنية على أسس موضوعية، ومراعاة حقوق الآخرين وتحقيق الأمن والسلام والإستقرار والتحرك تحت سقف حفظ البيت الكوردستاني والمحافظة على لغة هادئة قابلة للنقاش لاتقطع الخيوط الممدودة مع غالبية القوى الكوردستانية والعراقية.

ما تعرّض له الشعب الكوردستاني في عهود الحكومات العراقية كان قاسياً، ولكن ما تعرّض له بعد الإستفتاء على حق تقرير المصير، وسط أجواء من الخذلان والتآمر والخيانة من البعيد والقريب وبالذات من أشقاء وأصدقاء الأمس، والذين يتمسكون بالضوابط المثالية في إتخاذ القرارات، كان الأقسى من كل جولات القتل والإجرام، ولكن رغم ذلك، ورغم كل الظروف الصعبة خرج الكوردستانيون من بين الركام والأنقاض ليجدوا سبيلاً إلى الحياة وليرفعوا رايات التحدي المنضبطة، وهم يسعون الى مستقبل أفضل تحقق فيه أهدافهم الاستراتيجية. ونتائج الإنتخابات البرلمانية الأخيرة خير دليل على ما نقول، وأبلغ درس للسياسيين الذين تجاوزوا مرحلة العتب من المنصات الإعلامية الى مرحلة الشتم والشك والريبة من الطروحات والإجتهادات وكل الكلام الذي يقال بخصوص الأولويات وحسن النيات، والذين لا يقرون أبداً بأخطائهم ولا يعترفون بالفشل، ويبحثون دائماً عن أطراف أخرى يحملونها مسؤولية عثراتهم.