قبل اربعون عاما فقط كانت هناك عبارة رائجة فحواها ان مصر تكتب وبيروت تطبع والعراق يقرأ..وبطبيعة الحال لا نختلف في ان هذه المقولة قد اصبحت اثرا بعد عين على الاقل فيما يخص بلدنا الذي يقدر عدد الاميين فيه بالـ 5.620 خمسة ملايين وستمائة وعشرون الفا حسب اقل التقديرات ناهيك عن اعراض 96% من العراقي عن القراءة تماما والاكتفاء بالتهام السطور وقراءتها على عجل بدون فهم او تركيز او استيعاب لما تقدمه من معلومة؟! بل حتى انت ايها القارئ على الاغلب لم تقرأ الرقم اعلاه ولم تنتبه لاختفاء كلمة الشعب!..نعم لدينا مشكلة كبيرة في موضوع القراءة ومجالات القراءة المطلوبة ولدينا مشاكل اخرى في عدم الالتزام في مجال او حدود التخصص الذي نتقنه ويفترض ان يكون رسالتنا لهذا العالم, فالانسان هو تحصيل ونتيجة نهائية لمجموع قراءاته واهتماماته المعرفية التي تحدد معالم شخصيته التي يراها الاخرون , وبطبيعة الحال فأن هذا االكلام يبقى ايضا مجرد تنظير وافتراض وردي بدأ يصبح مع مرور الوقت ضربا من الخيال لأن القراءة بمجملها غادرت دائرة اهتمام العراقيين ربما الى غير عودة! وولعنا بالسياسة يجعل الجميع بمجرد ان يحصل على شهادة ما او منزلة علمية او منصب وظيفي او جائزة ما حتى يتحول من مجال تخصصه الى السياسة فتراه يُنظر ويحلل ويطالب ويندد وربما يرشح فيما بعد!..يا سيدي ان كنت شاعرا جيدا او مهندسا او طبيبا او حائز على شهادة الدكتوراه في احد المجالات فهذا لا يعني بالضرورة ان تكون محللا سياسيا بارعا فالسياسة شأنها شأن العلوم الأخرى تحتاج الى متخصصين وليس الى متطفلين يزيدون الطين بلة ويفسدون اكثر مما يصلحون ويهرفون بما لا يعرفون..وصدف هذا الاسبوع ان قرأت على احد صفحات التواصل الاجتماعي تعليقا طائفيا مقيتا بشكل غير مسبوق غير اني فوجئت اكثر بعد الدخول على صفحة صاحب التعليق اذ تبين انه من أصحاب الشهادات العليا وفي التخصصات النادرة مما عزز في مخيلتي نظرية السيدة التي قالت عن طليقها الدكتور الجامعي
(انه “خبير” في مجال تخصصه ” حمار” في نواحي الحياة الاخرى)!!..عودا على بدأ علينا ان نعترف انه من الصعب جدا اعادة الجمهور العراقي الى القراءة المفيدة التي تخدم المجتمع وتسهم في رفع مستوى الوعي العام للمواطن العراقي الذي يكاد يحصر قراءاته ان وجدت في مجالي الدين والادب؟!وهذا امر واقع لا يمكن نكرانه كوننا شعب يكره علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها من علوم ارتكزت عليها الامم في تحقيق نهضتها الاقتصادية والصناعية في الوقت الذي يطرب فيها للحديث عن السياسية والدين والادب حتى لو كانت تسبب الضغينة في اغلب الاحيان..بيد ان الكارثة الحقيقية التي تجعلني اجزم ان المراحل المقبلة للمجتمع العراقي تكرار سمج للمراحل السابقة هي ان هذه الظاهرة المخيبة للآمال استهوت حتى الاجيال الناشئة الذين ما ان يدخلوا عالم صفحات التواصل الاجتماعي العراقية حتى يجدوا نفسهم امام خيارات معرفية هابطة وضيقة تنحصر بين التحشيش والمنشورات الطائفية والشعر الساذج والادب الهابط والتحليلات السياسية التي يتبناها متطفلون غالبا ما (يخوطون بصف الاستكان) او يعبرون تحت هذا الغطاء عن نفسهم الطائفي او الحزبي الضيق او المأجور ! وانه لمن المؤسف حقا ان تكون صفحات الفيسبوك التي ربما كنا نعول عليها في اصلاح الفكر الثقافي للفرد العراقي ان تكون هي مركز العدوى بين هذه الاجيال التي ستبقى تكرر نفسها الى ما لانهاية ..واذا كانت اهتمامات الامم واولوياتها تحدد مستقبلها القريب والبعيد فأننا بلا شك اصبحنا نعرف الى ماذا ستؤول اليه الامور في العراق ما دمنا نحصر اهتماماتنا في (الدين والادب والسياسة) ونتجاهل العلوم التي يمكن لها ان ترتقي بنا الى مصاف دول صناعية مثل تايوان وفيتنام والهند وماليزيا !!وهذا الشيء بالتأكيد لن يحدث ما دام لدينا خطباء دين يؤمنون ان الارض مسطحة وساسة يرون ان الغاية تبرر الوسيلة ونفاق ادبي لا يفنى ولكنه يستحدث من العدم!!