دخل الصحفي المرموق رئيس تحرير إحدى كبريات الصحف العربية التي تصدر في لندن غاضبا على رئيس قسم التاريخ في احدى الجامعات البريطانية العريقة ، حين أُبلغ برفض قبوله طالبا في الماجستير وقالوا له : لانقبل الطلبة العرب لأنهم لايقرؤون ، فاحتج صاحبنا رافضا هذه التهمة الشنيعة ، وقال رئيس قسم التاريخ لصاحبنا بهدوء : تستطيع تفنيد دعواي هذه ، إذا أجبتني عن بضعة أسئلة حول الأماكن التي عشت بها لسنوات في عالمك العربي، قال صاحبنا: رشقني بحزمة من الأسئلة تبين بعدها حين لم أعرف الإجابة أن معلومات رئيس قسم التاريخ البريطاني عن عالمنا العربي أدق من معلوماتي وأعمق ، ثم قال لي أخيرا ، سأمنحك فرصة أخيرة ، خذ هذه الورقة التي تتضمن مائة عنوان من الكتب اقرأها في عام ثم عد إلي لنتحاور فيها وعلى ضوء نقاشنا سيتقرر حينها قبولك من عدمه ، طالبا للماجستير في قسم التاريخ.
إذا استصحبنا هذه الواقعة التي يرويها صاحبها ، وانتقلنا إلى عالمنا العربي لنشاهد زميلنا العراقي الذي قد فغر فاه متعجبا ، حين صُدم وهو يسمع إجابة السؤال الذي طرحه على مجموعة من زملائه الأستاذة الجامعيين (كم كتابا تقرؤون في السنة؟) الإجابة كانت صاعقة مدوية : ( لانقرأ) حين نمعن النظر في هذه الإجابة الكارثية نعرف المفاعيل الحقيقية للخراب الذي نعيش على أطلاله.
الإنسان يعد مثقفا حين يقرأ في الحد الأدنى (24) كتابا في السنة ، كل شهر كتابين ، واحد في التخصص الدقيق والآخرعام ، على أن لاينقص الكتاب عن 200 صفحة ، فضلا عن قراءة الصحف والمجلات وتصفح المواقع الألكترونية و……
القراءة تقربنا للأفكار الملهمة التي نلتقي فيها بالعظماء فنزداد ثقة في أنفسنا ونبصر مساحات واسعة يمكن أن نقدم من خلالها أفكارا تغير حياتنا عبر قوارب التفاؤل ، مثل مجاميع كثيرة من الشباب العراقي هنا وهناك على سعة مساحة الوطن تعززت علاقتهم بالكتاب ثم أصبحوا بعد ذلك مهندسو أفكارومنفذو برامج تنموية واجتماعية رائعة.
نحن في حاجة ماسة إلى قراءة العلوم والمعارف المتنوعة التي تسهم بفتح أذهاننا على التجارب الناجحة في الشرق و الغرب لتحصل عقولنا على التهوية الضرورية فلا تتعفن . كما يقول الدكتور مصطفى محمود. القراءة عملية استراتيجية وليست ترفا وحكايا مثقفين ، لأنها آفاق ومدارك وفضاءات تحيل حياتنا الرتيبة إلى نشاطات فكرية وآليات حضارية تُرشَد تعاملنا مع الواقع من أجل إدراك مكامن فرص العمل التنموي والإجتماعي واجتياز للتحديات بمهارة ومرونة حفاظا على الجهد والوقت من الضياع في غير محله.
غياب القراءة أدى إلى تصحرعالم أفكارنا ، وهو السبب الرئيس للإنسداد السياسي الذي يوشك على بعثرتنا على أبواب دول العالم من جديد ، فالقراءة الناضجة مخرجاتها أفكار ايجابية تسهم بفاعلية في سياسة التغيير المفضية بسلالة إلى التغيير السياسي ، أوإدارة رشيدة للتغيير تحقق إرادة التغيير.
كيف يستطيع الإداري أو السياسي أو الأستاذ الجامعي أو الإعلامي وغيرهم من أداء أعمالهم بجودة تحقق الجدوى المنشودة ، وهم لم يتأبطوا يوما كتابا ولم يسامروه أو يأنسوا به أويستدفئوا بإنبعاثات توهجاته في ليالي الشتاء الطويلة الباردة.
كيف لمقتحم لعالم السياسة وهو لم يقرأ حرفا في الفكر السياسي ، ولم يسمع بفرانكلين أو ابن خلدون أو الكواكبي أوشريعتي أوالوردي وسواهم من عباقرة الزمان .
بل كيف يمكن لمتحدث أن يسترسل في شرح فكرة أو نقد موضوع وهو لم يقرأ لخالص جلبي ( الإستبداد المعاصر) أوسليمان الهتلان (الشارع ياسيادة الرئيس) أومحمد الأحمري ( الديمقراطية ، الجذور واشكالية التطبيق ) أومحمد محفوظ ( ضد الطائفية) وغيرهم من الأفذاذ .
معارض الكتب التي ستشرع أبوابها لإستقبال زوارها في أربيل 24 وبغداد 254 وغيرها من المعارض ، نأمل أن تكون مواسم ثقافية وفرص لإلتقاط الكنوز المعرفية وسقي الغراس الثقافي وإدارة النماء الفكري عبر آليات جديدة تجذر مفهوم القراءة وتشيعها على أوسع نطاق.
فماأجمل أن تجد نفسك وسط الزحام في معارض الكتب ، وتحظ بمتعة تسارع عينيك وهما تتبعان العناوين وتستطلعان أسماء المؤلفين ، لتعود بعدها بالكنز الثمين حزم فكرية وروايات ممتعة ودراسات عميقة وصداقات جديدة مع مفكرين واعدين.
القراءة مشروع إنسان، لأنها تسهم بترتيب عقله عبر خارطة ذهنية مقننة ، تكسبه المهارات الفكرية وتزج به بلطف وإغراء في غمار التنمية الإجتماعية. القراءة وسيلتنا للحاق بالعالم من حولنا الذي اجتاز العولمة ووصل بجدارة الى ( الغوغلة) بينما نحن مانزال محشورين في خنادق التاريخ الخانقة ونعجز عن ابتكار الحلول السلمية لأزمات حياتنا المعاصرة ، فالقراءة وعي تاريخي وهضم معاصر لمعارف وأفكار خلاقة تنعش حياتنا لأنها الطريق لصناعة انسان حضاري.
إضاءة : إذا كان بعض الأشخاص الذين نلتقيهم قد يغيرون حياتنا ، فإن بعض الكتب قد يسهم أيضا في تغيير حياتنا. (حياة باي لمؤلفها يان مارتل الرواية الفائزة بجائزة بوكر 2002م منشورات دار الجمل بغداد 2006م).