23 ديسمبر، 2024 7:56 م

القراءة السياسية للنص

القراءة السياسية للنص

-1-
تختلف القراءات باختلاف القُراّء فَهمْاً وخبرة وثقافة …

وهناك لون من القراءة يمكن ان نسميه بالقراءة السياسية ،

وهذه القراءة لا تقف عند حدود النصوص، معزولةً عن ظروفها الزمانية والمكانية، والملابسات التي اكتنفَتْها، والمناسبات التي رافقَتْها …

وهي الى ذلك قراءة عميقةُ الابعاد لما خَفِي وراء السطور …

-2-

ولنضرب لذلك مثالاً ننتزِعُهُ من كتب الأدب،

جاء في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ج1 / ص187:

مايلي :

” دعا المنصور جماعة من القُراّء فقال لأحدهم :

اقرأْ

فقرأ :

{ أفرأيت إنْ متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ماكان يمتعون } 205-207 / الشعراء

فغضب .

وقال لآخر

اقرأْ :

فقرأ

{ كم تركوا من جناتٍ وعيون } 44/الدخان

فغضب ، وأَخَرْجَهُ

ثم قال لآخر :

اقرأْ

فقرأ :

{ انما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } 33/ الأحزاب

فأمر له بصلة “

أقول :

المقصود بالقُراّء ، قراّء القرآن ، وكان هؤلاء يشكلون طبقة مرموقة تقرن بطبقة المحدثين والفقهاء …

ومن السذاجة بمكان :

الذهاب الى أنها صدفةٌ محضهَ دفعت القارئ الاول – الذي أغفل الخَبَرُ ذِكْرَ اسمِه – الى اختيار المقطع القرآني الذي قرأه للمنصور ،دون أنْ يقصد من ورائه التذكير بانّ ايام النعيم التي يعيشها ” المنصور” معدودة، وكما زالت عما قبله فهي زائلة عنه لا محالة ، وعليه أنْ يُعدّ نفسه لمواجهة الحساب الالهي العسير جراّء ظُلْمِهِ وبَطْشِهِ …

ان سطوة المنصور وجبروته واجتراحه المظالم لم تكن خافية عن الناس ، والأحرار منهم لا يطيقون السكوت عما يرونه من تنمر وتجبر …

من هنا اختار (القارئُ) أياتٍ من القران الكريم يقرع بها سمع الحاكم الظالم ، ثم هو في مأمن من العقاب ، ذلك أنه لم يقل شيئا من عنده ، وانما قرأ أيات من كتاب الله العزيز، وأبى (المنصور) ان يفتح لها قلبه..!!

اذن فقارئ القران هذا كان رجلاً واعيا حريصاً على انقاذ الأمة من المظالم ، وبعيداً عن التملق للحاكم الظالم

ان البلاغة – كما يقولون – : مطابقةُ مقتضى الحال

وقد نجح الرجل في ايصال الرسالة المناسبة الى المنصور من خلال القراءة .

ولن يضيره غضب المنصور عليه، لأنّ هذا الغضب هو دليل ملموس على انّ المنصور لم يكن يرغب في ان يستمع لما يقيم عليه الحجة حتى لو كان من كلام الله ….

والغريب ان يُنهى الناس عن التعريض بالسلاطين … ممالئَةً لهم على حساب الموازين ..!!

وقد سار القارئ الثاني على نهج الأول، فكان أنْ أُخرج بعد أنْ غضب المنصور عليه .

إنّ الطغاة سرعان ما يغضبون …

انهم يغضبون لمجرد ان يقرأ القارئ آيةً تذكرهم برحيلهم عن هذا الكوكب ، وتركهم الكنوز والقصور والعيون …

أما القارئ الثالث :

فهو ممن عرف من أين تُؤكل الكتف

وجرى على ما جرى عليه المتملقون للحكام ، فقرأ على المنصور آية (التطهير) التي اختصت باهل بيت النبوة المعصومين عن كل الاخطاء والخطايا ، وأين منهم المنصور وهو الذي لا تحصى أخطاؤه وخطاياه؟!

انّ للقارئ الثالث أشباهاً وزملاء في كل عصر ومصر .

فمن زملائه القدماء :

أبو الحسن المدائني الذي دخل على المامون فلما خرج قال له رجل :

عرّفني ما جرى بينك وبين أمير المؤمنين ؟

فقال :

لستَ بموضع ذلك ،

لأنك لا تميّز بَيْن أنْ تُقدّم ذِكْرَ امير المؤمنين وبيْن أنْ تُقدّم ذكري ولا شك أنّ جوابَه نُقل الى المامون ، ولا ندري بم كافأه على ذلك ؟

ومن زملائه المعاصرين :

من أعرب عن الرغبة في استنساخ سيده الذي أوصل البلاد الى حافة الهاوية ..!!

[email protected]