ألم – ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين – الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ” – 1-2-3- البقرة-
قبل سنوات قرأنا للكاتب محمد العبيدي وهو ينقل أراء الباحث محمد شحرور أنكاره وجود نص قرأني يوجب الحجاب , وكلمة الحجاب التي وردت في أكثر من أية من أيات القرأن الكريم لم تكن تعني الحجاب الشرعي للمرأة كما في سورة ألآعراف وسورة مريم , ولكنها في سورة ألآحزاب كانت تعني الحجاب الشرعي للنساء نصا ” وأذا سألتموهن متاعا فأسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا أن ذلكم كان عند الله عظيما ” – 53- ألآحزاب – , وبغض النظر عن شدة أعجاب محمد العبيدي بما يكتبه محمد شحرور وهذا يبقى حق له مالم يتجاوز حدود الله ولا يلتزم بمنطق الفكر المنتزع من ثقافة القرأن التي تقوم على : ألآصطفاء , والعصمة , والذرية الصالحة , والنبوة , وألآمامة , والتقية , والشفاعة , والبداء , والغيب , وكان ألآحرى بالسيد شحرور والسيد العبيدي أن يفرقا بين الفقهاء الذين يلتزمون بهذه ألآركان القرأنية في تكوين المفهوم ألآسلامي الذي يصبح مواكبا لتطور الحياة بناء على حضور مرجعية ” الراسخون في العلم ” ومرجعية ” أهل الذكر ” ومرجعية ” أولي ألآمر ” وكان عليهم من باب صوابية وموضوعية البحث أن يشيروا الى الفقهاء الذين لم يلتزموا بأركان الثقافة القرأنية مما أوجد فراغا معطلا لدى فريق كبير من المسلمين , أما أن يذهب الشحرور والعبيدي الى تعميم الخطأ على جميع فقهاء ألآسلام ويرمونهم بالمثالية فهذا توجه ينطوي على تكرار خطأ الفقهاء المعطلين لآركان الثقافة القرأنية .
ولذلك رأينا في مقدمة سورة البقرة : أن المتقين : هم الذين يؤمنون حقا بالغيب , ومعرفة الغيب طموح بشري واكبه ترشيد سماوي بحضور المعصوم وهو صاحب العلم اللدني الموحى به من قبل الله تعالى لمن يستطيع حمل ألآمانة , والعصمة هي فيض رباني لصالح البشرية التي تمتلك عقلا محدودا , ولذلك قال الفلاسفة : قف عند حدك أيها المحدود ” وألآمانة : هي مسؤولية أداء العلاقة مع الخالق ومع الخلق بكل مكوناته بعدل وحكمة قال تعالى ” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ” والقسط هو العدل , وقال الرسول “ص” : أن أستطعت أن لاتأكل أو لاتشرب ألآ في سبيل الله فأفعل ” وهذا النوع من التوجيه وتحمل المسؤولية ليس مثاليا وأن قرأه البعض هكذا ووصفوه بالمثالية لآنهم لم يفرقوا بين المثال الواجب ألآتباع وألآخراج وهي مطلوبة في الحياة , وبين القدوة التي هي مناط القيادة والتي أعطيت العلم والفهم والحلم والحكمة , ومن هنا يقع الكتاب والباحثون والمحققون في عدم القدرة على الفرز بين من هو عالم حقا ومن هو أكتسب المعلومات في حقل من حقول المعرفة والعلم , وهذا الذي جعل الشحرور والعبيدي يعجبان بالعقل العلمي في النهضة ألآوربية , لآنهم لم يفرقوا بين من حصل على العلم فقط دون الفهم والحلم ومن حصل على العلم والفهم والحلم والحكمة , فألآول يبقى قلقا غير قادر على أداء ألآمانة في مفهومها المعرفي , فالطبيب الذي يسيئ لمرضاه وللمهنة هو مكتسب لعلم , وفاقد للفهم والحلم , وكذلك المهندس والقاضي والفقيه الذين لايحققون الفهم والحلم في نظرتهم للآشياء ولمن حولهم من الناس والكائنات , ومن فوقهم وهو الله تعالى هؤلاء جميعا لايؤمنون بالغيب وبالتالي فهم ليسوا من المتقين حتى وأن كانوا فقهاء .
أن مدرسة القرأن الحقيقية هي المدرسة التي أخذت بثقافة القرأن وأركانها التي بيناها , وهي المدرسة التي تلتزم بنصوص ومصطلحات : ” الراسخين في العلم ” و” أهل الذكر ” و ” أولي ألآمر ” والراسخون في العلم قد نجد لهم نصيب في بعض علماء اليهود والنصارى ولكن لآن شرائعهم نسخت بنزول القرأن وأكمال رسالة ألآسلام , عليه يتعين بقاء النص متعينا بعلماء ألآمة الذين قال عنهم رسول الله “ص” علماء أمتي أفضل من أنبياء بني أسرائيل ” ويتضح هذا المعنى عندما نستقرأ حال علماء المسلمين جميعا فنجدهم ممن أخذ بالعلم الكسبي , وهذا لايصلح أن يكون من الراسخين في العلم ولا من أهل الذكر ولا من أولي ألآمر , بينما نجد فئة من علماء المسلمين أمتد وجودهم من أيام رسول الله “ص” والى منتصف القرن الثالث الهجري عرضت عليهم أمهات المسائل العلمية والفقهية والفلسفية والمغيبات فأجابوا عنها بأقناع تام وقبول ودهشة أصحاب السؤال , وهذه الفئة هي التي قال عنها رسول الله ” أني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ” وحتى لو أخذنا بمقولة الذين حرفوا النص الذي تواتر نقله عن رسول الله “ص” في القرنين ألآولين ثم قال بعضهم : بدل عترتي : سنتي ” فأن المعنى عند أهل العلم والتحقيق لايتغير , فالذين ظهروا بحضورهم العلمي المبهر هم من قال عنهم رسول الله ” لاتتقدموا عليهم فتهلكوا , ولا تتخلفوا عنهم فتندموا , وهم معلمون فلا تعلمونهم ” وعندما نراجع كل علماء المسلمين ورؤساء المذاهب نجدهم قد تتلمذوا وأخذوا العلم من مشايخ وعلماء أعلى منهم رتبة , بينما لانجد ذلك ينطبق على الفئة التي حدد مواصفاتها رسول الله ” ص” كما نجد أن هذه الفئة الموصوفة بالقيادة والولاية لم يختلف بعضهم مع بعض في أي مسألة فقهية أو علمية أو فلسفية , أو غيبية , مما يدل حسب أستقراء العقلاء بأن هذه الفئة هم ” الراسخون في العلم ” وهم ” أهل الذكر ” وهم أولي ألآمر ” تعينا أيمانا بالهدي المعرفي الذي لايغادر حقائق ألآشياء
ثم أن رسول الله “ص” قد بين بوضوح أنه من قاتل على التنزيل , وقتاله لم يكن عدوانا وأنما كان لتحقيق العدل الذي فيه مصلحة الناس , والرسول “ص” هو من أخبرنا عمن يقوم بالقتال على التأويل وأخبر به أبا بكر وعمر عندما سألاه عمن يقاتل على التأويل لظنهم أن أحدهم ربما يكون , ولكن رسول الله “ص” قطع الشك باليقين وقال : هو خاصف النعل , وهو علي بن أبي طالب لآنه كان جالسا بجنبهم يخصف نعله ؟
أن مشكلة الباحث الشحرور والكاتب العبيدي أنهما لم يواكبا مرحلة التأسيس الثقافي القرأني بنصه الملزم , ولذلك وقعا في مقولة الفهم المادي للعلوم القرأنية و راحا يتهما فقهاء ألآسلام بالترادفية في معاني القرأن وبتعطيل حركة التطور العلمي , وهذا الحكم لاينطبق على كل فقهاء ألآسلام , فالمعرفة الحقة تقول بأستثناء العلماء الذين عرفوا حقا من هم ” الراسخين في العلم ” ومن هم ” أهل الذكر ” ومن هم ” أولي ألآمر ” وهناك لقطة ثقافية تاريخية لم يتعرض لها دارسو الفكر ألآسلامي , وتلك اللقطة هي للشاعر أبي العلاء المعري الذي ألتقى بالسيد العلامة الشريف المرتضى في بغداد ودار بينهما حوار فلسفي ممتع خرج على أثره الشاعر المعري معجبا بالسيد الشريف المرتضى ونظم أعجابه شعرا .
ويبقى مفهوم الروح شاخصا يتحدى من يتمنطق بالعلم المادي جهلا , ” يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أتيتم من العلم ألآ قليلا ” والبحث العلمي المعاصر وبحوث الفضاء توصلت الى ألآخذ بمفهوم الجانب الروحي في الحياة وأعتبرته مفتاحا لدراسة الكون المعجز وألآنسان الثنائي التركيب ” ونفخنا فيه من روحنا ” والذي قال عنه ألآمام علي بن أبي طالب :-
حسبوك جرما صغيرا .. وفيك أنطوى العالم ألآكبر
وتبقى حقيقة ” أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ” وما بين هذا الخلق وذاك يمتد غيب يتحدى مقولات الماديين الذين نسوا السماء فأنساهم الله ذكرهم , ودارسو الثقوب السوداء والسدم والمجرات أعياهم البحث فسلموا بمعجزة الكون كما سلم أنشتاين بحكمة وعظمة الخالق وهو الله , وتلك هي عقول من عرفوا الحقيقة أو قاربوا مشارفها لا العقول التي تتخذ من نقص غير المعصومين حجة على خطأ المنهج في الفكر ألآسلامي كما ذهب البعض ممن لم يحسنوا أستعمال أدوات التفكير الى القول بفساد الفكر ألآسلامي أطلاقا دون الدين ظنا منهم أن ذلك مسوغا للترجيح وهو غير مرجح , فالدين مرجعية للعقل , والعقل مرجعية للعلم والفهم , وهذه السلسلة هي عماد التربية الدينية التي تتخذ من الزمان والمكان حواضنا لحركة ألآنسان , قال ألآمام علي : ربوا أبناءكم الى زمان غير زمانكم فأنهم مولودون لجيل غير جيلكم , وهذا هو معنى الثابت والمتحرك في فهم أستراتيجية التنمية البشرية ..
أن ألآسترسال في خلط المعاني وسلق العبارات يوهم بالوصل الى منتج معرفي وهو ليس كذلك , فالدعوة الى ألغاء دور المرجعية ودور الفقيه والمفسر , هي مجازفة غير محمودة العواقب دائما لاسيما بعد ثبوت النص القرأني ” ليتفقهوا في الدين ” وبعد ثبوت مواقف ملهمة بالمعرفة التي تتحول من تعلم الى علم مثل موقف النبي من أصف بن برخيا الذي عنده علم من الكتاب لآنه أراد أن يفهم من معه أنه هو الوصي من بعده , وموقف النبي “ص” في حادثة تبليغ سورة براءة التي أخذها من أبي بكر وأعطاها الى علي بن أبي طالب حتى ظن أبو بكر أنه نزل فيه شيئ ؟ وكذلك موقف المبيت في فراش النبي “ص” ليلة هجرته وهو فراش الموت , وموقف النبي “ص” في حادثة المباهلة مع أهل الكتاب , فأصطحابة لعلي وفاطمة والحسن والحسين مع ثبوت النص القرأني هو ألزام حجة عقلية تطبيقها يجعل ألآمور في نصابها الصحيح حتى لايصار الى التعسف في تفسير النص كما حدث عند من أختطف الثقافة القرأنية بنهجها الجامع بين مفهوم الحياة الدنيا كما قال رائد من رواد هذا المنهج وهو علي بن أبي طالب عندما قال : الدنيا أمنا وليس عيب على المرء أن يحب أمه , وفي مفهوم أخر قال : أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا , وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ” .
هذا هو المنهج القرأني يعمل على أصلاح الدنيا بماديتها وكسب ألآخرة بروحانيتها
ولهذا المنهج رجال ربانيون أبرزتهم التجارب والمعرفة وألتزامهم بالحق والعدل ولم تبرزهم أنسابهم ولا علاقاتهم الشخصية ولا سلطتهم الزمنية , ولا كثرة المديح الذي أصبح بضاعة تعافها النفوس المرضية والعقول التي تتفكر في جنبات الكون وعظمة الخالق , ومن تلك العقول المتشحة بالعلم والتقوى من قال : قولوا فينا ماشئتم ولكن نزهونا من الربوبية , وهذا هو منهج الحق , فالقرأن بالحق نزل وبالحق أصبح دستورا للمسلمين وللبشرية الباحثة عن الحق والعدل