كل شيء – ضمن حدودنا قدراتنا – في عالم الإمكان ، وكل حضارة أو دولة أو مؤسسة أو منشأة أو تجمع ، هو خاضع في طبيعته لقانونين أساسيين في الوجود ، وهما :
1/ لا شيء ينشأ من العدم
2/ لا شيء يذهب إلى العدم
وبالتالي ، فكل ما في الوجود لا يمكن أن يخضع للإندثار التام أو (التلاشي المطلق) بأي حال من الأحوال ، بل لابد له – بعد الانهيار – من أثر (مادي أو معنوي) يدل عليه في الحاضر أو المستقبل ، وإن كان هذا الأثر غير مرئي بالنسبة للمشاهد ، أو مؤجل من ناحية الزمان أو المكان ، كما هو الحال مع (أثر الفراشة) .
فكل حضارات العالم لم تقم لوحدها ، ولم تنشأ من العدم ، بل قامت اعتماداً على حضارات سابقة لها ، وأثرت في حضارات لاحقة بها ، وإن كانت هذه المؤثرات مقنّعة بقناع التجديد والتغيير .
فــ (هلاك) الحضارات والأمم والقرى والمؤسسات والمنشآت لا يعني اندثارها الكامل ، ولا يعني تلاشيها من الوجود بكل ما تحمله من بناء أو فكر أو رؤىً أو ابتكارات ، بل شأنها بذلك شأن الغابات المحترقة التي تترك في (حوافها) بعضاً من الشجيرات أو البذور أو الحشائش التي لم تطلها يد النيران ، والتي يمكن لها أن تؤسس لغابة جديدة .
وقد أشار القرآن إلى إلغاء الاندثار من خلال آيات عديدة ، ربما لم يستطع المفسرون إلقاء الضوء عليها بشكل يؤسس لفهم جديد في إمكانية (إعادة) بناء الحضارات أو الدول أو المؤسسات أو غيرها ، ولم يلتفتوا إلى إمكانية ضمان (الديمومة) في تطوير بنائها ضمن محتوى هذه الآيات ، على أسس من الرغبة الجادة في التجديد .
إن الشعوب التي تبني الحضارات يمكنها – على ضوء ما ورد قرآنياً – أن تستمر في البناء ، وتضمن ديمومتها في الوجود حين تؤمن بقدراتها على إعادة البناء وتطويره ، دون أن تستسلم لليأس أو اللامبالاة ، أو الخضوع للانكسار النفسي المفضي إلى (السخرية والاستهزاء بالتأريخ) ، والمؤدي بدوره إلى (جلد الذات) .
ومن الواضح جداً إن من أهم أسباب (سقوط) وانهيار البناء هو (الترف) المؤدي إلى شعور ساكنيه السلبي- كمرحلة أولى – بأنه بناء (مثالي) لا يتطلب التجديد والتطوير .
وهذا سيكون سبباً كافياً كي يشغلهم عن مراقبة وصول البناء – بحكم التقادم وعوامل التعرية – إلى مرحلة من (التهرئة) والتشقق ، مما يؤدي بدوره سيعزز لدى الساكنين شعوراً (سلبياً) جديداً بــ (اللا جدوى) من المعالجة ، وهكذا تنهار الدول والحكومات والحضارات والمؤسسات وغيرها من أشكال البناء .
لقد عالج القرآن العظيم مفهوم (الاندثار) الراسخ في عقول الأفراد السلبيين من خلال الإشارات والقصص والأمثلة التي يراد منها تعزيز ثقة الانسان بقدراته الذاتية .
فحين مر أحد أنبياء بني إسرائيل على إحدى القرى (الخاوية على عروشها) – وهو النبي عزير (عليه وعلى نبينا وآله الصلاة السلام) – تلجلجت في نفسه أقنوم (اليأس) من إمكانية (إحياء) هذه القرية (بعد موتها) ، فقال في نفسه متسائلاً :
– (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) البقرة – 259
ولم يكن استفهام عزير (عليه السلام) استفهاماً (استنكارياً) ، بل هو استفهام (استخباري) قصّه الله سبحانه وتعالى علينا كي يبيّن لنا الحقيقتين التاليتين :
1/ إن إمكانية إعادة أي بناء ليست مستحيلة .
2/ إن الزمن وعوامل التعرية ليست أقوى من قابليات وقدرات الانسان .
ومن الملفت للنظر أن هناك آية أخرى في كتاب الله العظيم تؤسس لمبدأ الثقة بــ (قدرة) الانسان في إعادة البناء ، وتحملّه مسؤولية (الاستمرار) في التطوير والتجديد ، وتضعه أمام مثال مهم من خلال منطوقها التالي :
– (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) يس – 79
وصحيح أن هذه الآية هي مصداق لقدرة الله سبحانه وتعالى في إعادة (إحياء العظام) وهي (رميم) ولكن (خصوص الخاص لا ينفي عموم العام) .
وبالتالي ، فيمكننا اعتبار هذه الآية (مفهوماً) لمصاديق كثيرة ، ومنها (إحياء) القدرة الكامنة لدى الانسان في إعادة بناء ما بدأه ، رغم عوامل التغيير والتهرئة والخراب ، وتشتيت عوامل اليأس والانكسار لديه .
بل يمكننا أن نعتبر هذه الآية دعوة للإنسان من أجل أن :
((يمتلك القدرة على إعادة ، وتطوير ، وتحديث ، وتجديد ، ومراقبة ما بناه)) .
العراق – عاصمة العالم المحتلة